للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أسباب قسوة القلب]

وقسوة القلب من أربعة أشياء، إذا جاوزت قدر الحاجة، أي: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة.

فالأكل إن زاد عن حده وكذلك النوم والكلام والمخالطة للناس قسا القلب، وكما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب، فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنفع فيه المواعظ.

فمن أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته، لأن الشهوة حظ النفس، والطاعة رضا الله، والقلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها، والقلوب آنية الله في أرضه، يعني: كما أن المرأة لها أوانٍ في البيت فالقلوب أيضاً في الأجساد هي عبارة عن آنية الله في الأرض، فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها، وأحب الأواني الإناء العريض الخفيف الحمل، الرقيق الصلب، فلا يكون رقيقاً ينكسر بسهولة، ولذلك قال الله عن آنية أهل الجنة: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:١٦]، والقوارير هي من الزجاج، لكنه قال: (من فضة) فهي قوارير من فضة، هذه هي الأكواب التي يشرب فيها أهل الجنة، اللهم اسقنا شربة هنيئة في الجنة بدون سابقة عذاب.

إذاً فالأواني التي يشرب فيها المؤمنون في الجنة في نقاء الزجاج، وفي صفاء الفضة.

وكثير من الناس شغلوا قلوبهم بالدنيا، ولو شغلوها بالله والدار الآخرة لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة، ولرجعت إلى أصحابها بفرائد الحكم، وطرف الفوائد، وكأن ابن القيم يتكلم عن نفسه، فيقول: الناس شغلوا قلوبهم بالدنيا، ولو شغلوها بالله لكانت القلوب مليئة بالحكم، يكون حينها كلام الله أحسن ما يجده، إذاً: فإذا غذي القلب بالتذكر، وسقي بالتفكر، ونقي من الدغل، رأى العجائب وألهم الحكمة، حتى أن الصالحين كانوا يشمون رائحة الذنوب، فلما يجلس أحدهم مع آخر يعرف صوابه من خطئه، ويشم رائحة طيبة من العارفين، ورائحة سيئة من العاصين المخالفين، وليس كل من تحلى بالمعرفة والحكمة وانتحلها كان من أهلها، بل أهل المعرفة والحكمة هم الذين أحيوا قلوبهم بقتل الهوى، وأما من قتل قلبه وأحيا الهوى، فالمعرفة والحكمة عارية على لسانه، فخراب القلب من الأمن، والغفلة وعمارته من الخشية والذكر.

<<  <  ج: ص:  >  >>