للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من كانت الدنيا همه صار خادماً لغيره

[وإن أصبح العبد وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه].

تجد بعض الناس كما يقال: عنده قدرة على تصدير الهم إلى غيره، بل إني أعرف امرأة توفي ابنها وهو يشرب الشاي، فمن حزنها حرمت على نفسها شرب الشاي، وعندما تنسى ابنها قليلاً وتتسلى قليلاً تذهب وتقرأ في صفحة الوفيات، وتتذكر ابنها وتبكي، فهي تبحث عن الحزن أينما كان، لكن العبد لو وكل أمره إلى الله لما حزن هذا الحزن الذي لا داعي له.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإذا أصبح المسلم وأمسى والدنيا همه].

كلنا هذا الرجل المسلم، همه المال والمرتب والمكافأة والبيت وغير ذلك.

قال: [حمله الله همومها وغمومها وأنكادها] كان سيدنا علي رضي الله عنه ماشياً مع الصحابة فوجد جيفة لحيوان ميت والكلاب حولها، فقال: الدنيا جيفة قذرة، فمن أراد أن يأخذ منها فلينهش مع هذه الكلاب.

قال: [ووكله إلى نفسه فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق].

أي: فبدلاً من أن يحب الله يحب الخلق والعياذ بالله.

قال: [ولسانه عن ذكره بذكرهم].

فينسى الله والعياذ بالله، ويقضي حياته وهو يذكر الناس.

قال: [وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم] وأمثال هؤلاء: حمزة البسيوني أو حسن طلعت أو شمس بدران كانوا يُؤمرون بتعذيب الناس، حتى إن حسن طلعت مدير السجن كان يقول: كل أحد يخاف مني، ولو أن جبريل أتى ناحية السجن فإنه سوف يأتي إلي ويلقي لي التحية العسكرية أولاً! وبعد النكسة حُبس في نفس السجن الذي كان يديره في يوم من الأيام، والذي كان يعذب المسجونين فيه! قال الله تعالى: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:٥٨].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان).

وهذه آية من آيات الله عز وجل أراها كل يوم، وهي أن شاباً كان أبوه من مدراء السجون في الستينات، وكان يأمر المسجونين المسلمين عندما يمشون أمامه أن يضعوا أيديهم وراء ظهورهم، ويخفضوا رءوسهم؛ من باب الإذلال، وابنه الآن عمره ثلاثون عاماً، ولكنه من بداية حياته جاءه مرض، فلا يستطيع أن يحتفظ بتوازن جسمه إلا إذا وضع يديه وراء ظهره وخفض رأسه، وأنا أراه كل يوم يمر من أمام منزلي ويركب الحافلة.

سبحان الله! {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:٥]، ومثل هذه الحكم تعتبر أقوى درس في العقيدة، كما تدين تدان.

وكتب في إحدى الصحف: أن رجلاً كان يصنع فخاراً فكبر في السن وأصبح ابنه يساعده، فقام هذا الرجل بحمل بعض الفخار على ظهره فتعثر لكبر سنه، فوقع الفخار من على ظهره وانكسر، فإذا بابنه ينهال عليه ضرباً وهو في الأرض، فاجتمع الناس وأرادوا أن يفتكوا بالولد، ولكن والده صاح وقال: اتركوه، لقد ضربت أبي في نفس هذا المكان! من يزرع خيراً يجن خيراً، ومن يزرع شراً فلن يحصد إلا من جنس ما زرع، والحياة كتاب مقروء ويجب على المؤمن أن يعتبر، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:٥٣]، فالحق ظاهر وواضح، فإن عملت خيراً ستلقى خيراً، وإن عملت شراً ستلقى شراً، والعياذ بالله، والعرق دساس.

فالله سبحانه وتعالى عندما يصبح العبد ويمسي والدنيا أكبر همه يشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، ويؤتى يوم القيامة بالأتباع والمتبوعين، فيقولون: هؤلاء يا رب! هم الذين أضلونا وقالوا لنا: اعملوا كذا وكذا، يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:٣٨]، فيقول رب العزة: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف:٣٨]، أي: لكل واحد منكم ضعف من العذاب، والمخدوم تهرّب من الخادم، والخادم يريد أن يعلق المشكلة برقبة من يعلوه، والمسلم لا يعصي الله بطاعة مخلوق، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فإذا قال لي المخلوق شيئاً يخالف ما قال الله فلا طاعة له مهما كان، سواء كان أباً أو أماً أو ابناً أو زوجة أو قريباً أو قريبة أو رئيساً أو مرءوساً أو مديراً أو غفيراً أو وزيراً، لا طاعة لهم ما دام هذا يخالف أمر الله، فلو أن الوزير قال لمدير مكتبه: اذهب بهذه الهدايا (لفلان بيه) مثلاً وهو يعلم أنها رشوة وليست هدية وقام بتنفيذ الأمر فهو رائش، ولن ينفعه هذا الوزير يوم القيامة؛ لأن الله تعالى قال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:١٦٦ - ١٦٧].

سبحان الله! وقال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:١٦٤]، حتى إن الشيطان يقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:٢٢] ويقول: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:١٦].

فالعبد يجب أن يعمل ما يرضي الله؛ لأنه قد يأتيه الموت وقد تأتيه لحظة النهاية وقد يأتي الختام ولا يكون الختام حسناً والعياذ بالله.

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وخذنا من الدنيا مسلمين يا رب العالمين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره].

إن كير الحداد عبارة عن منفاخ، فهو يظل ينفخ فيه طوال اليوم لكي ينفع غيره؟ وهذا مثله.

فأي قيمة لرجل يقف وراء رجل مثله، ويقدم له الكرسي ويأخذ له النظارة في جيبه، وهكذا سبحان الله! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل أدلكم على رجل من أهل النار؟ قالوا: من يا رسول الله؟! قال: رجل جالس وبين يديه رجال قيام).

ويقول عمر بن الخطاب: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.

سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه سعد بن أبي وقاص ولقيه يعجن العجين، فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين وأين الخادم؟! قال: أرسلناه ليشتري شيئاً من السوق، فكرهنا أن نحمله شيئين في وقت واحد.

مع أنه خادم، وهذه مهنته، ولكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يرد أن يكلفه فوق طاقته، حتى لا يكلفه الله ما لا طاقة له به.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته، بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته].

إذاً: الخالق والمخلوق لا يشتركان في العبودية، وجمع المتضادات من المستحيل، فلا أحد يستطيع أن يجمع الليل مع النهار، ولا البارد مع الحار، ولا أن يجمع الأبيض مع الأسود، ولا يمكن أن يجتمع الطيب مع الرديء، كذلك إما أن تعبد الخالق أو أن تعبد المخلوق.

فلا يجمع الإنسان في قلبه إلا الخالق، فيذلل الله له المخلوقات وييسرها.

أتى إلي ذات مرة شخص وقال لي: المصلحة الفلانية لن يقوموا بعملهم لي إلا إذا أخذوا مبلغ كذا وحددوا المبلغ، فهل أدفع؟ قلت له: لا تدفع، فقال لي: سأتضرر من ذلك كثيراً، فقلت له: لا تخف لن يحصل لك شيء، فذهبت معه إلى ذلك الرجل الذي بيده المصلحة ولم أكن أعرفه أبداً، ولكنني استعنت عليه بالله عز وجل، وقلت له: أريد أن تنجز لي هذه المصلحة؟ فقال لي: القانون رقم ١٤٧ يقول، ولا يوجد قانون أصلاً، فقلت له: ما هو المطلوب بالضبط؟ قال لي: المطلوب ليس لي، فقلت له: لمن؟ قال: للعمال المساكين في هذا المكتب، فقلت له: هذه إما رشوة وإما صدقة، فقال لي: اعتبرها صدقة، فقلت له: لماذا أتصدق عليك وأنت ترتدي هذه البدلة الجديدة التي تقدر بـ٢٠٠ جنيه؟ اذهب وبعها واشتر بدلة من وكالة البلح بـ٣٠ جنيهاً، وبعد ذلك سأتصدق عليك عندما أرى بنطال بدلتك ممزقاً وتستحق الصدقة، فقال لي: هل أتيت هنا لكي تهيننا؟ قلت له: لن أخرج من هنا إلا بعد أن توقع على هذه الورقة، وإذا لم تمضها سوف أتصل الآن برئيس الوزراء وسأجعله يأتي إلى هنا، فأمضى الورقة وظن أني أعرف وساطات كبيرة، وأنا لا أعرف أحداً ولا أعرف رقم الوزير ولا أعرف حتى اسمه، ولا أعرف هل كان سيرد علي أو لا يرد؟ ولكنني وجدت نفسي أقول له هكذا، حتى أمضى على الورقة.

سبحان الله! فاستعن بالله ولا تعجز، فهو مخلوق مثلك.

كذلك أعرف رجلاً ظلمه أحد المسئولين الكبار، فجاء وقال لي: ماذا أفعل؟ هذا الرجل ظلمني ونقلني من مكتبي إلى مكتب أقل درجة، فقلت له: لا تيأس هكذا، فقال: ماذا أفعل؟ قلت له: ادخل عليه، وقل له: لو ظلمني أحد فإنني سآتي إليك وأشكوه، لكن أنت الذي ظلمتني فأنا سأشكوك إلى الله.

فقال لي: يا أخي! هذا لا يصلي، ولا يعرف الله، فقلت له: أنت قل له هذا الكلام فقط، وأنت معتقد أنه لا يملك لنفسه ولا لك لا نفعاً ولا ضراً، فذهب الرجل وقال لهذا المسئول ذلك الكلام، فرد عليه المسئول وقال له: بيني وبينك حد الله، وأمر بأن يردوه إلى مكانه الذي كان فيه، وأمر له بترقية كذلك! إذاً: ما الذي يجعلني أخاف من أي إنسان، إذا أنا خفت من الله فإنني أشعر أن جميع الناس لا أخاف منهم، لكن إذا خفت من هذا وخفت من هذا، فأين الخوف من الله؟! والله لو خفنا من الله، لأخاف الله منا المخلوقات، ويسر لنا الأمور، وذلل لنا الطاعات، ووفر لنا الأوقات، وبارك لنا في الأولاد والعمر، وبارك لنا في الكلمة، وبارك لنا في كل شيء، فلا بد من الخوف من الله عز وجل؛ يقول الل

<<  <  ج: ص:  >  >>