[حكمة تأخير خلق آدم عليه السلام]
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: كان أول المخلوقات القلم ليكتب المقادير قبل كونها، وجعل آدم آخر المخلوقات، وفي ذلك حكم.
فلماذا كان آدم آخر المخلوقات؟! فالله عز وجل خلق الأرض وما فيها، والسماء وما فيها، والبحار والمحيطات والجن والحيوانات والأشجار والهواء والماء، وبعد هذا كله خلق آدم عليه السلام؛ وذلك كله من باب تمهيد الدار قبل الساكن، فهذا أولاً.
ثانياً: أن خلق السماوات والأرض والقمر والبر والبحر كان من أجل الإنسان، فلنا مكانة عند الله، ألسنا نحن الخلفاء؟! ولكن -يا ترى- هل نحن خلفاء بالحق أو بالباطل؟! نسأل الله أن يجعلنا خلفاء بالحق.
ثالثاً: أن أحذق الصناع يختم عمله بأحسنه وغايته، كما يبدؤه بأساسه ومبادئه.
فأنت تجهز لابنك الشقة بعمل الخرسانة ونحوها، وآخر شيء هو ما يعمله النقاش، فأجمل شيء في الشقة البياض والنقش الذي فيها.
فـ ابن القيم يقول: أحذق الصناع يختم عمله بأحسنه.
رابعاً: أن النفوس متطلعة إلى النهايات والأواخر دائماً، ولهذا قال موسى للسحرة: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس:٨٠]، فلما رأى الناس فعلهم تطلعوا إلى ما يأتي بعده.
ولذلك في الإعلام عندما يصعد الممثلون ليحيوا الجمهور يصعد بعدهم البطل، فالنفوس متطلعة للنهايات، فلما رأى الناس فعلهم تطلعوا إليه.
خامساً: أن الله سبحانه أخر أفضل الكتب والأنبياء والأمم إلى آخر الزمان، وجعل الآخرة خيراً من الأولى، والنهايات أكمل من البدايات.
فانظر إلى التوافق الغريب، وأكاد أقول: إن هذا إلهام من الله لـ ابن القيم.
فكم بين قول الملك للرسول: اقرأ، فيقول: ما أنا بقارئ، وبين قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:٣].
فانظر إلى البداية كيف كانت والنهاية كيف هي، ففي البداية يقال له: اقرأ، فيقول: ما أنا بقارئ.
في سنة ثمانية وسبعين كان هناك إحصائية تقول: عندما نتحلل إلى عناصرنا الأساسية نعود إلى عناصر الصوديوم والكالسيوم والحديد والفسفور والكبريت والماء والدهون، فوجدوا ابن آدم فيه كمية من الكالسيوم أو الجير تكفي لتبييض عش دجاج صغير، وفيه كمية من الدهون تصنع أربع قطع صابون من القطع المتوسطة، وفيه كمية الفسفور تصنع ثلاثين رأس عود كبريت، وفيه كمية من الماء تبلع عشرة جالونات ماء، وكمية من الكبريت تكفي لتطهير جلد كلب من البراغيث، فقوموا هذه المواد بالفلوس فوجدوا أنها تساوي جنيهاً ونصفاً، فأنت كمادة لا تساوي كيلو من اللحم كمادة، ولكنك بالروح تساوي عند الله شيئاً عظيماً، وانظر إلى حديث رسول الله: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
وفي منطق الناس يقال: بطل كمال الأجسام! والله عز وجل يقول: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:١٠٥]، ولقد كان سيدنا ابن مسعود نحيفاً، ولما ضحك الصحابة من دقة ساقه قال الحبيب: (أتضحكون من دقة ساق ابن مسعود؟! والذي نفسي بيده إن ساق ابن مسعود في الميزان يوم القيامة أكبر عند الله من جبل أحد).
سادساً: أنه سبحانه جمع ما فرقه في العالم في آدم، فهو العالم الصغير، وفيه ما في العالم الكبير.
ولذلك قال الإمام علي: وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر فالعالم كله موجود في ابن آدم، فإذا ارتقى صار سماء، وإذا سفل صار أرضاً.
سابعاً: أنه خلاصة الوجود وثمرته، فناسب أن يكون خلقه بعد المخلوقات.
فهو ثمرة الموجودات كلها.
ثامناً: إن من كرامته على خالقه أنه هيأ له مصالحه وحوائجه وآلات معيشته وأسباب حياته، فما رفع رأسه إلا وذلك كله حاضر.
فربنا هيأ الأرض بالذي فيها من أجل آدم.
تاسعاً: أنه سبحانه أراد أن يظهر شرفه وفضله على سائر المخلوقات، فقدمها عليه في الخلق، ولهذا قالت الملائكة: ليخلق ربنا ما شاء، فلن يخلق خلقاً أكرم عليه منا.
فلما خلق آدم وأمرهم بالسجود له ظهر فضله وشرفه عليهم بالعلم والمعرفة، فلما وقع في الذنب ظنت الملائكة أن ذلك الفضل قد نسخ ولم تطلع على عبودية التوبة الكامنة، فلما تاب إلى ربه وأتى بتلك العبودية علمت الملائكة أن لله في خلقه سراً لا يعلمه إلا هو.