أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد: فأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في مستقر رحمته، وأن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم احشرنا في زمرة المحبين فيك يا رب العباد، واجعلنا من المتجالسين فيك ومن المتزاورين فيك، وتقبلنا في عبادك الصالحين، واشرح اللهم صدر كل ذي صدر ضيق، واشف كل مريض، وتب على كل عاص، واهد كل ضال، وارحم كل ميت، وانصر كل مظلوم، واستر كل عيب، واغفر كل ذنب، واجعل خير أعمالنا خواتيهما، وخير أيامنا يوم نلقاك، وخذ بيد أبنائنا وبناتنا إلى كل خير، اللهم وفقهم يا رب العباد إلى ما تحبه وترضاه، واجعلهم من المحسنين الطائعين المؤمنين وأبعد عنهم شياطين الإنس والجن وأكرمهم بكرمك يا أكرم الأكرمين، إنك يا مولانا على ما تشاء قدير.
إن العلماء الذين أوصلوا لنا هذا العلم أو شرح الله قلوبهم بهذا الكلام الذي نقرؤه ونتعلم منه، إنما هم أناس رضي الله عنهم ورضوا عنه، وهم أناس كالشجرة الطيبة التي غرس أصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدث عنها القرآن، كما قال تعالى في سورة إبراهيم:{كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}[إبراهيم:٢٤ - ٢٥].
وهم أناس أدركوا أهمية الإسلام وأهمية الإيمان وأهمية التقوى وأهمية الاستقامة، وأدركوا أنهم في الدنيا ضيوف وسوف يعود الضيف إلى بيته، وسوف تعود النفس إلى بارئها، وأدركوا أن الدنيا عارية مسترجعة، وأمانة مردودة، فأدوها كما استلموها، فكان الواحد منهم إذا استلم الدنيا لم يكثر فيها من الذنوب، وإنما يكثر فيها من الخير، فتحقق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(عيشوا مع الناس معيشة حتى إذا غبتم حنوا إليكم، وإذا متم ترحموا عليكم).
فكان حقيقاً بهم أن الناس حين يغيبون عنهم يحنون لهم، وإذا غاب الواحد منهم ترحموا عليهم، فها نحن نترحم على ابن قيم الجوزية، والأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وأصحاب الكتب الستة: البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبي داود، كما نترحم ونترضي ونستلهم سحائب الرضوان على صحابة الحبيب صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم جميعاً، وهذه كما قال عز وجل:{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}[الانفطار:٥]، وقد أخروا أعمالاً طيبة، وتركوا تاريخاً صالحاً يترحم عليهم بسببه.
ثم هم أدركوا أيضاً مدى عداوة الشيطان، ونستطيع أن نضرب مثالاً نبين فيه مدى عداوة الشيطان لنا، وكيف يحاربنا في عقيدتنا وفي ديننا، وكيف أنه لا يستريح إلا إذا أغضب العبد ربه، أو انحرف المسلم عن طريق الصواب، فنقول: لو أن إنساناً جلس في بيته فنظر فوجد في الغرفة حية أو عقرباً أو شيئاً من هذا القبيل، فهل إذا جن عليه الليل سينام، أم أنه لن يستريح إلا إذا قتل هذه الحية؟ قطعاً أنه لن ينام، ولن يستطيع أن يغمض عينيه، فهو يخشى أن تدخل الحية غرفة الأولاد فتلدغ أحد أولاده، ولذا لا يستطيع أن ينام إلا إذا قتل هذه الحية، فإن قتلها اطمأن بعد ذلك.
وهكذا الشيطان، فإنا لو أدركنا أن إبليس في بيت كل إنسان، وفي قلب كل إنسان، وأن خطره أعظم من هذه الحية لن يهدأ لنا بال إلا بعد أن نقتله، وقتله كثرة الذكر، وكثرة الطاعة، والإخلاص، والتقوى، والتوكل على الله، وصدق النية، والصبر عند المصيبة، وشرح الصدر، وتحمل أذى الناس، فكل هذه الأمور تزيد الإيمان؛ والإيمان كما هو معلوم يزيد وينقص تزيده الطاعات وتنقصه المعاصي، والمسلم دائماً يحب أن يرفع الرصيد عند الله عز وجل.
فرضي الله عن ابن قيم الجوزية وعن علماء المسلمين وعن السلف الصالح، اللهم احشرنا في زمرتهم يوم القيامة يا أكرم الأكرمين.