للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك، والاكتفاء بالمعاني المنصوصة يفضي إلى إبطال الشرع جملةً.

قال ابن القيم (١): "وهل إبطاله الحِكَمَ والمناسباتِ والأوصافَ التي شُرِعت الأحكام لأجلها إلا إبطالٌ للشرع جملةً، وهل يمكن فقيهاً على وجه الأرض أن يتكلَّم في الفقه مع اعتقاده بطلانِ الحِكْمَة والمناسبة والتعليل وقَصْدِ الشارع بالأحكام مصالحَ العباد؟ وجناية هذا القول على الشرائع من أعظم الجنايات، فإن العقلاء لا يمكنهم إنكار الأسباب والحِكَم والمصالح والعِلَل .. " (٢).

وعلى هذا فإذا ثبت المناط بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباطٍ استلزم حينئذٍ الاجتهاد في التحقُّق من وجوده في الفروع والجزئيات الحادثة، وهو ما يُطْلَق عليه مُسمَّى: " الاجتهاد في تحقيق المناط ".

ولا يؤثر في أصل العمل بهذا النوع من الاجتهاد كونُ المناط ثبت بنصٍّ أو إجماعٍ أو استنباط؛ لأنَّ المناط في هذه الصور ثبت بالدليل المعتبر من طريق الشرع، ولم يبق إلا الاجتهاد في التحقُّق من وجود ذلك المناط في بعض الصور والجزئيات التي تتجدَّد بتجدَّد الأزمنة والأمكنة والأحوال، فلا يؤثر في ذلك كون المناط مظنوناً أو معلوماً.

قال الزركشي: " إذا ظننا أو علمنا العِلَّة، ثم نظرنا وجودها في الفرع، وظننا تحقَّق المناط، فهو تحقيق المناط " (٣).

وعلى هذا فلا يشترط أن تكون المقدِّمة الأولى قطعية، وهي كون المناط في حُكْم الأصل مقطوعاً به، بل يصح أن تكون المقدِّمة الأولى ظنية، لأنَّ الظنَّ يقوم مقام العِلْم - عند تعذُّرة- في وجوب العمل به (٤).

ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تبيعوا البُرَّ بالبُرِّ إلا مثلاً بمثل" (٥)، فإن هذا النصَّ لم يدلّ على عِلَّة تحريم الرِّبا في البُرِّ لا صراحةً ولا إيماءً، كما لم يثبت


(١) هو: شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرعي الدمشقي الحنبلي، تتلمذ على شيخ الإسلام ابن تيمية، وانتصر له فيما صدر عنه، وهذَّب كتبه ونشر علمه وكان شوكة في نحور المخالفين من أهل البدع والزندقة، من مؤلفاته الكثيرة: إعلام الموقعين (ط)، والصواعق المرسلة (ط)، وأحكام أهل الذمة (ط)، وغيرها، توفي بدمشق سنة (٧٥١ هـ).

ينظر في ترجمته: الدرر الكامنة (٣/ ٤٠٠)، النجوم الزاهرة (١٠/ ٢٤٩)، ذيل طبقات الحنابلة (٢/ ٤٤٧).
(٢) شفاء العليل: (٢٠٥).
(٣) البحر المحيط: (٥/ ٢٥٧).
(٤) ينظر: البرهان (٢/ ٨٠٤)، أساس القياس (٤٣)، قواعد الأحكام لابن عبدالسلام (٢/ ٢١ - ٢٢)، نهاية الوصول لصفي الدين الهندي (٧/ ٤٠٤٣).
(٥) تقدَّم تخريجه: (٤٩).

<<  <   >  >>