للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولهذا اعتبر العلماء الاجتهاد في تحقيق المناط من ضرورات الشريعة (١).

قال ابن تيمية: " فهذا الاجتهاد مما اتفق عليه العلماء، وهو ضروريٌّ في كلِّ شريعة، فإن الشارع غاية ما يمكنه بيان الأحكام بالأسماء العامة الكليَّة، ثم يُحْتَاج إلى معرفة دخول ما هو أخصّ منها تحتها من الأنواع والأعيان " (٢).

الدليل الثالث: لو فُرِض التكليف مع إمكان ارتفاع الاجتهاد في تحقيق المناط لكان ذلك تكليفاً بالمُحَال، وهو غير ممكنٍ شرعاً، كما أنه غير ممكنٍ عقلاً؛ لأنه لا يتأتَّى امتثال التكليف إلا بمعرفة المكلَّف به، وهي لا تكون إلا بهذا النوع من الاجتهاد، حيث إن معرفة المكلَّف به شرطٌ لإمكان الامتثال، وفَقْدُه رافعٌ لهذا الإمكان، فيكون التكليف مع عدم إمكان الامتثال تكليفاً بالمُحَال، والتكليف بالمُحَال غير واقعٍ شرعاً، كما أنه غير واقعٍ عقلاً (٣).

وبناءً على هذا فإن الاجتهاد في تحقيق المناط لا يقتصر على الحاكم والمفتي، بل يشمل كلَّ مكلَّفٍ في نفسه فيما كان واضحاً بالنسبة له، لأنه أَعْرَفُ بحال نفسه.

قال الشاطبي: " فالحاصل أنه لابدَّ منه بالنسبة إلى كلِّ ناظِرٍ وحاكِمٍ ومفتٍ، بل بالنسبة إلى كلِّ مكلَّفٍ في نفسه " (٤).

ثم ضرب على ذلك مثالاً يوضحه فقال: " فإن العامِّي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهواً من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرةً فمغتفَرة، وإن كانت كثيرةً فلا، فوقعت له في صلاته زيادة، فلابدَّ له من النظر فيها حتى يردَّها إلى أحد القسمين، ولا يكون ذلك إلا باجتهادٍ ونظر، فإذا تعيَّن له قِسْمُها تحقَّق له مناط الحُكْم، فأجراه عليه،


(١) ينظر: رسالة في أصول الفقه للعُكْبَري (٨٢)، المستصفى (٣/ ٤٨٧)، شفاء الغليل (٤٠٩)، روضة الناظر (٣/ ٨٠٣)، شرح مختصر الروضة للطوفي (٣/ ٢٣٥)، الإبهاج (٣/ ٨٣)، نشر البنود (٢/ ٢٠٨).
(٢) درء تعارض العقل والنقل: (٧/ ٣٣٧).
(٣) ينظر: الموافقات مع تعليقات دراز (٥/ ١٧ - ١٨).
(٤) الموافقات: (٥/ ١٦).

<<  <   >  >>