للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لا يبقى للظنِّ رجحانٌ بيَّن، لا سيما إذا اختلف الفقهاء؛ فإن عقولهم من أكمل العقول، وأوفرها فإذا تلدَّدوا وتوقفوا، ولم يتقدموا، ولم يتأخروا لم يكن ذلك في المسألة طريقةٌ واضحةٌ ولا حُجَّةٌ لائحة؛ فإذا وُجِد فيها قولٌ لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم والذين هم سادات الأمة، وقدوة الأئمة، وأعلم الناس بكتاب ربهم تعالى وسُنَّة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وقد شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل ونسبة مَنْ بعدهم في العلم إليهم كنسبتهم إليهم في الفضل والدِّين كان الظنُّ والحالة هذه بأن الصواب في جهتهم والحق في جانبهم من أقوى الظنون، وهو أقوى من الظنِّ المستفاد من كثيرٍ من الأقيسة، هذا ما لا يمتري فيه عاقلٌ مُنْصِفٌ، وكان الرأي الذي يوافق رأيهم هو الرأي السداد الذي لا رأي سواه، وإذا كان المطلوب في الحادثة إنما هو ظنٌّ راجحٌ ولو استند إلى استصحابٍ أو قياس عِلَّةٍ أو دلالةٍ أو شَبَهٍ أو عمومٍ مخصوصٍ أو محفوظٍ مُطْلَق أو واردٍ على سبب؛ فلا شكَّ أن الظنَّ الذي يحصل لنا بقول الصحابي الذي لم يُخالَف أرجح من كثيرٍ من الظنون " (١).

فإذا ثبت عن الصحابي قولٌ أو عملٌ في مسألةٍ شرعيَّة , ولم يشتهر , ولم يُعْلَم له مخالِفٌ من الصحابة كان حُجَّةً تُقدَّم على ما سواها من وجوه الاجتهاد الأخرى الصادرة عن غير الصحابة.

وقد ذكر الشافعي أن هذه الصورة قليلة الوقوع في الأحكام الشرعيَّة , فقال: " وقلَّ ما يُوجَد من قول الواحد منهم لا يخالفه غيرُه " (٢).

وذلك لأن أكثر أقاويل الصحابة إما أن يثبت اشتهارها ولا تُسْتَنْكَر: فتكون من قبيل الإجماع السكوتي , أو تُسْتَنْكَر: فيقع الاختلاف فيها , وتكون موضع اجتهادٍ لايختصُّ به الصحابة دون غيرهم من المجتهدين.

قال الشاطبي: " فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات، أو تخصيص بعض العمومات؛ فالعمل عليه صواب، وهذا إن لم يُنْقَل عن أحدٍ منهم


(١) إعلام الموقعين: (٦/ ١٧ - ١٨).
(٢) الرسالة: (٥٩٦).

<<  <   >  >>