[باب الثياب البيض للكفن]
ثم شرع البخاري رحمه الله تعالى في باب: (الثياب البيض للكفن)، أي: أن الرجل والمرأة يكفنان في ثوب أبيض على السواء، وهذا على سبيل الاستحباب لا الوجوب، فيكفن الرجل بثلاث قطع، ويمكن أن يكون قطعتين أو قطعة واحدة -والبخاري رحمه الله تعالى يستدل على هذا بالأحاديث التي سأذكرها- ويمكن أن يكون كفن الرجل قميصاً، والقميص إما أن يكون له أزرار، وإما أن يكون بلا أزرار، وإما أن يكون سابغاً، أي: طويلاً، وإما أن يكون قصيراً، وسنذكر بعد قليل واقعة: عبد الله بن أبي ابن سلول الذي كفّنه النبي صلى الله عليه وسلم في قميصه وتفل عليه.
وفي رواية: أنه أخرجه من قبره وتفل عليه تبركاً، وكفّنه في قميصه.
أي: تشفّعاً بأثر النبي عليه الصلاة والسلام، ولما قام يصلي عليه قال له عمر: (يا رسول الله تصلي عليه وهو القائل كذا وكذا؟ تصلي عليه وقد فعل كذا وكذا؟ فقال: إن الله خيّرني فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)، قال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:٨٠]، ثم أنزل الله سبحانه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:٨٤]، ففيه بيان من الله عز وجل في عدم جواز الصلاة على المنافق، أي: صاحب النفاق الاعتقادي لا العملي.
قال البخاري رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كُفِّن في ثلاثة أثواب يمانية، بيض سحولية -من القطن- من كرسف، ليس فيهن قميص ولا عمامة).
إذاً: لا يختار الله لنبيه إلا الأفضل، فقد كُفّن عليه الصلاة والسلام في ثلاثة أثواب فقط، وهذا هو الأفضل بالنسبة للأمة، فتكفّن موتاها كما كُفّن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا على وجه الاستحباب، لكن مصعب بن عمير رضي الله عنه قد كُفّن في قطعة واحدة، لأنهم لم يجدوا له إلا ذلك، فقد كانوا إذا غطوا أعلاه بدا أسفله، وإذا غطوا أسفله بدا أعلاه، وجاء عن عبد الرحمن بن عوف -وكان من المبشرين بالجنة- أنه كان صائماً يوماً، فجاءوا له بالطعام ليفطر فقال: ارفعوا الطعام عني، فلقد قتل أخي مصعب بن عمير ولم نجد له كفناً نواري به جسده إلا جزءاً يسيراً، إذا سترنا أعلاه بدا أسفله، وإذا سترنا أسفله بدا أعلاه، فأخشى أن تكون طيباتنا قد عُجّلت لنا، وأبى أن يأكل رضي الله عنه وأرضاه.
وكذلك الرجل الذي وقصته دابته وهو محرم، فقد كفن في قطعتين: هما الإزار والرداء، وعليه فيجوز أن يكفّن الرجل في ثوبين، ويجوز أن يكفّن في ثوب واحد، لكن المستحب أن يكفّن في ثلاثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كُفِّن في ثلاثة أثواب يمانية بيض من قطن ليست مخططة.
وفي الحديث عند الإمام الطبراني وإن كان فيه ضعف، قال: (البسوا الثياب البيض؛ فإنها أطهر وأطيب، وكفّنوا فيها موتاكم)، صححه الترمذي والحاكم.
وربما يقول قائل: كيف نكفّن المرأة والرجل في البياض، رغم أن المأمور هو المخالفة بين المرأة والرجل؟
و
الجواب
أنه بعد الموت لا يعد هناك تشبه؛ لأن الجميع يوارى في التراب، أما في الحياة فقد لعن الله المرأة تلبس لبسة الرجل، والرجل يلبس لبسة المرأة، أي: أن ملابس النساء خاصة بهن، وملابس الرجال خاصة بهم، فلا يجوز لأي من الجنسين أن يتشبه بالآخر.
وأما بالنسبة للقميص والعمامة للميت ففيه خلاف بين العلماء، لكن المستحب ألا يكفّن الرجل في قميص ولا في عمامة، وإنما في ثلاثة أثواب يُدرج فيها إدراجاً، فتطبق على الميت من الجانبين.