للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بيان أن الكلام إذا خرج مخرج الغالب فليس له مفهوم مخالفة]

وإن قال قائل: أنا لن أقتل نفسي بحديدة، وسأقتلها غرقاً، والوعيد إنما جاء لمن قتل نفسه بحديدة، قلنا له: افهم مقصود الكلام؛ لأن الكلام له منطوق ومفهوم.

فالمنطوق: هو ما دل عليه اللفظ في محل النطق.

والمفهوم: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق، وهو قسمان: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة.

ومفهوم الموافقة يسمى لحن الخطاب، وفحوى الخطاب، وهو مثل قول الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:١٠].

فهذه الآية نص في منطوقها، وهي تدل على حرمة أكل مال اليتيم.

فلو قال رجل: أنا لن آكل مال اليتيم وإنما سأتلفه بحرقه، والله إنما نهاني عن أكله ولم ينهني عن حرقه.

قلنا: إن الله ينهى عن الأكل وعما ساوى الأكل، سواء بالحرق أو بالإتلاف أو بالإغراق، فالكلام له منطوق ومفهوم، فمنطوقه عدم أكل مال اليتيم، ومفهومه عدم إتلافه بأي طريقة.

وإذا قال قائل: أنا أصلي -والحمد لله- الفجر بوضوء العشاء، فمنطوق الكلام أنه يصلي بوضوء العشاء، ونفهم من الكلام أنه لا ينام؛ لأنه ما أحدث، فهو يحافظ على وضوئه من العشاء إلى الفجر.

وحينما يقول قائل: أنا لم أر قفا مصل في حياتي.

نفهم منه: أنه يصلي دائماً في الصف الأول، فالكلام له منطوق ومفهوم، وحينما قال صلى الله عليه وسلم كما في مسلم: (اليد تزني وزناها اللمس) مفهوم الكلام أن لمس اليد أحد أسباب الزنا.

وهذا مفهوم الكلام.

إذا قتل نفسه بسُمّ أو غرقاً فهو كمن قتل نفسه بحديدة، وإنما نص على الحديدة في قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة) لأن الحديدة هي غالب المعدن الذي يستخدم في قتل الإنسان، فخرج الكلام مخرج الغالب، وإذا خرج الكلام مخرج الغالب فليس له مفهوم مخالفة.

ولو قال قائل في قول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:١٥١]، أي: من فقر، فالآية تحرم قتل الولد من الفقر فأنا سأقتل ولدي من غنى.

قلنا له: إن الكلام خرج مخرج الغالب، فغالب الفعل أنهم كانوا يقتلون أولادهم من فقر، وليس له مفهوم مخالفة.

وكذلك في قول الله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:١٣٠] إذا قال قائل: إن الله حرم الربا أضعافاً مضاعفة، فأنا لن آكل الربا المضاعف أضعافاً مضاعفة، وسآكل قليلاً.

قلنا له: إن الكلام خرج مخرج الغالب.

وكذلك إذا خرج الكلام لبيان واقع، ليس له مفهوم مخالفة، مثل قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:٢٣].

فإذا تزوجت امرأة لها بنت فهذه البنت تسمى ربيبة، وهذه الربيبة تحرم على زوج الأم بمجرد أن يدخل بأمها، كما قال تعالى: ((مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ)).

وكلمة في حجوركم بمعنى أنها تتربى مع الرجل في بيته، فلو أن ربيبة تقيم في القاهرة وتزوجت أمها في الإسكندرية فإنها تحرم على الزوج، فكلمة في حجوركم لبيان الواقع، أي: أن الربيبة تكون في الواقع مع أمها، ونادراً ما تبعد عن أمها، فلا يشترط أن تكون في الحجر حتى تحرم، ولا يفهم من الكلام أن الربيبة إن لم تكن في الحجر أنها تجوز.

كما لا يفهم من قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:٣٣] على أن الشريعة الإسلامية لم تحرم الزنا إذا كان برضا المرأة؛ لأن الله قال: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور:٣٣] وإذا لم تكره فلها أن تزني كيفما شاءت، بل إن الكلام خرج لبيان واقع، فالواقع أنهم كانوا يكرهون فتياتهم على البغاء، فقال: ((وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ))، وليس معنى ذلك أنه يجوز برضاها.

<<  <  ج: ص:  >  >>