[باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلا زلنا مع صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الجنائز.
قال رحمه الله: [باب: (رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة)].
وتبويب الإمام البخاري بهذه الطريقة يبين أن هناك رثاءً مشروعاً ورثاءً غير مشروع، فالمشروع: كأن تذكر أن فلاناً قد مات، ولا تزيد على ذلك شيئاً، وأما غير المشروع: فتقول مثلاً: توفي الأستاذ الدكتور رئيس قسم الجراحة، وزميل الجراحين بجامعة كاليفورنيا، والحاصل على كذا وكذا من الشهادات، أو تذكر في النعي أو في الرثاء ألقاب ومناصب دنيوية تولاها، أو أن تذكر له صلة قرابة، كابن عم العمدة، وخال النائب، وابن الزعيم والقائد فلان، فهذا كله من نعي الجاهلية الذي لا يجوز، فالألقاب والمناصب كلها زائلة بعد الموت، ولا ينفع المرء إلا ما قدم لآخرته.
هناك بعض الكلمات يأخذون عليها بعض الناس ملاحظات، وأنا أحب أن يكتبوا لنا بهذه الملاحظات، وهذه الكلمات كالقول: زوج مبارك على أخت مباركة، فلا نقطع لهما بالبركة، وإنما هذا على سبيل الدعاء والترجي والرجاء، فهذا مشروع ليس فيه شيء.
أيضاً حينما نقول: بارك الله لكما.
قال أحدهم: الحديث يقول: (بارك الله لك)، فلابد أن تلتزم بالنص، فأنا الآن أدعو له ولها، وحينما أدعو للواحد أقول: بارك الله لك، وحينما أدعو لهما أقول: بارك الله لكما، وإن كنت أدعو للجميع أقول: بارك الله لكم، فهذه أمور دقيقة يتنبه لها.
قال رحمه الله: [حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال]، فالذي يروي الحديث هو سعد بن أبي وقاص أحد المبشرين بالجنة، وله أبناء عدة، منهم عامر هذا الذي روى عن أبيه، وقد تتبع شيخنا أبو إسحاق صحيح البخاري ومسلم لينظر من الذي روى عن سعد في البخاري ومسلم من أبنائه، ولذا فـ سعد بن أبي وقاص قد ورث أبناءه العلم.
قال رحمه الله: [(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع)]، لذا فإن من فقه الإمام البخاري أنه قد كرر وأعاد وخرج هذا الحديث إحدى عشرة مرة، فمرة في كتاب الجنائز، ومرة في كتاب الإيمان، ومرة في كتاب حجة الوداع، ومرة في كتاب الوصايا، وكل ذلك إما للطيفة في السند أو في المتن، وفي الحديث مشروعية عيادة المريض.
قال: [(من وجع اشتد بي)]، أي: من مرض اشتد بي.
ثم قال: [(فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة)]، يعني: ظن سعداً أن هذا هو مرض الموت، وفي الحديث مشروعية الشكوى، كأن يقول المريض: أنا مريض، وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عندما قالت عائشة: (وا رأساه يا رسول الله، قال: بل وا رأساه أنا يا عائشة)، وقال يعقوب: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:٨٦]، فجواز الشكوى مع الحمد لا تمثل شكوى، فحينما تشكو ألماً في بطنك أو وجعاً في رأسك فإن ذلك لا يخالف الشرع، بدليل هذه الأدلة التي ذكرناها، وقوله: (وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة) يعني: لم يكن له من الأولاد إلا بنتاً واحدة، فلها أن تأخذ نصف التركة؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء:١١].