[باب الكفن في ثوبين]
قال البخاري رحمه الله تعالى: [باب (الكفن في ثوبين)].
بعد أن بين البخاري أن المستحب والأفضل والمندوب أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب قال: [باب الكفن في ثوبين]؛ لأنه ربما يعجز عن إيجاد ثلاثة أثواب، فنقول: تكفي الثوبين.
قال رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رجل واقف بعرفة، إذ وقع عن راحلته فاوقصته)] أي: كسرت عنقه.
قال: [(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين)]، فثوبين هنا مطلق، أي: في أي ثوبين، لكن في روايات أخرى: (وكفنوه في ثوبيه)، أي: الإزار والرداء.
لذلك فالروايات لا بد أن تُجمع؛ ليقيد المطلق، أو يخصص العموم، أو يوضح المبهم، أو يبين المعنى، فمثلاً: أورد النووي حديثاً في كتاب: (رياض الصالحين): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، فما معنى: ليخالفن الله بين وجوهكم؟ وضحتها الرواية الأخرى: (أو ليخالفن الله بين قلوبكم).
إذاً: فمخالفة الوجوه تعني: مخالفة القلوب، فنكون بجوار بعضنا البعض وهناك اختلاف في القلوب، وليسنا على قلب رجل واحد.
وبعض العلماء قالوا: (أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، أي: أن الوجه يلتف، فيصبح القفا في الوجه، ويصبح الوجه في القفا، وهذا رأي مرجوح؛ لأن النص الآخر قد بيّن معنى المخالفة، إذاً فجمع النصوص يبين المعنى.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ولا تحنطوه)، أي: لا تطيبوه.
(ولا تخمروا رأسه)، أي: لا تغطوا رأسه.
(فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً).
وفي هذا دليل على أن العبد إذا مات على عمل صالح ولم يتمه يُكتب له الأجر كاملاً، فلو أن رجلاً ذهب للحج، وبعد أن أحرم قُبض في جدة، فإنه يُكتب له أجر الحج؛ لأنه نوى وعزم وأحرم من الميقات وتوجه، والذي حال بينه وبين النسك الموت، وفي هذا أيضاً أن حُسن الخاتمة أن يموت العبد على طاعة.
قال العلماء: وفي هذا دليل على أن غير المحرم يحنّط؛ لأن قوله: (لا تحنطوه) أن من عادتهم أن يحنطوا الميت، وليس المقصود من التحنيط هو التجميد في الثلاجة كما يوضع البعض أشهراً فيها، ويقال عنه: هذا ميت إكلينيكياً لكنهم يضعون له الأجهزة الخاصة بالإنعاش، وهذا كلام لا يمكن أن يقبل بحال؛ لأنه ليس من دين الله سبحانه.
وهذا أخ فاضل يسأل عن رجل أثبت الأطباء موته، فهل يجوز أن ننزع الأجهزة التنفسية الصناعية منه أم نتركها؟ فأقول: يا عبد الله! إذا جاء الأجل وتوقف القلب فقد انتهى الأمر، فلم تتدخل طالما أن الأجل قد انتهى والآجال بيد الله سبحانه، فإذا مات إكلينيكياً أو توقف الدم عن النبض فما تفعله بعد ذلك ما هو إلا تأخير لا ينبغي أبداً، طالما أننا قد تأكدنا من موته، والله تعالى أعلم.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ولا تخمروا رأسه)، أي: لا تغطوا رأسه، ومعنى ذلك: أنهم كانوا يغطون رأس الميت، وأما كشف وجه الميت في القبر فليس عليه دليل، وإنما يظل على حاله، أي: مغطى.