[باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله]
قال البخاري: [باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله].
والبعض يصر على موعظة القبر، وموعظة القبر فعلها النبي صلى الله عليه وسلم مرة وتركها مرات، فالإصرار عليها باعتبارها سنة لا يجوز، إلا إذا رأيت أن الناس انشغلوا في أمور الدنيا فتذكرهم بالموت ولا شيء في هذا، فالمسألة تخضع للمصالح والمفاسد، ولكن لو كنا في جنازة رجل من أهل السنة فلا نقيمها؛ حتى نعلم الناس أنها ليست سنة راتبة؛ لأن البعض في الأرياف يوعظون على القبر، وهذا لا يجوز، والبدعة الأكبر أن يقوم أحدهم على رأس الميت ويقول له: واعلم يا عبد الله وابن عبده وأمته! أنه سيأتيك بعد قليل ملكان شفيقان رحيمان على من أطاع الله، غليظان على من عصى الله، فإن أجلساك وسألاك: من ربك؟ فقل لهما: الله ربي حقا، ومحمد نبيي صدقا.
وهذا لم يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنما ثبت عنه أنه كان يقول لأصحابه: (استغفروا لأخيكم فإنه الآن يسئل).
فكل واحد يدعو له في نفسه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه.
والآن تحول الجنائز إلى مظاهرات ويأتون بمكبرات الصوت ويتبادلون الكلمات، ويقف الناس ثلاث ساعات عند القبور، مع أن السنة خفيفة على الناس، ففي مسند أحمد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وعظ على قبر رجل ولما يلحد)، أي: لم يغطى بالتراب، فإذا أردت أن تعظ مرة فعظ وهم يدفنون، ولا تنتظر حتى الفراغ من الدفن، فالميت بعد دفنه بحاجة إلى استغفار، فاشتغل بالاستغفار للميت والموعظة للأحياء تكون عند الدفن، وأما بعد أن يهال عليه التراب ويغلق عليه القبر فهو بحاجة إلى استغفار، أي كلام غير الاستغفار لا ينبغي أن يكون منا، والبعض يريد أن يحول المآتم إلى مؤتمرات وتبادل الكلمات التي لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي بدعة من أهل البدع.
قال البخاري رحمه الله: [{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} [المعارج:٤٣]، من الأجداث يعني: من القبور.
{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:٤]، بعثرت يعني: أثيرت.
وقرأ الأعمش: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:٤٣]، نصب يعني: علم، والنصب: هو الشيء المنصوب يستبقون إليه.
{يَنسِلُونَ} [يس:٥١]، يعني يخرجون].
{فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:٥١]، (من الأجداث) أي: من القبور إلى ربهم يخرجون، ولما يبعث الله عز وجل العباد ويرى المشركون والمنافقون يوم القيامة ويعاينوه معاينة العين يقولون: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:٥٢]، فيجيب الأتقياء: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:٥٢].
يقول البخاري رحمه الله: [عن علي: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله.
] فالقعود من قيام، والجلوس من اتكاء، هذا لغة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا} [آل عمران:١٩١]، فقعد النبي صلى الله عليه وسلم وقعد الصحابة حوله، وهذا من باب التواضع والهضم لحق النفس، واليوم حينما نقول للمشيعين: اقعدوا، يقول صاحب الكرفته: كيف أقعد؟ وهو نافخ لنفسه، فكيف يقعد على التراب؟ يقول البخاري رحمه الله: [فقعد النبي صلى الله عليه وسلم وقعد الصحابة حوله، ومعه مخصرة -يعني: عوداً- فنكّس، فجعل ينكت بمخصرته -يعني: ينكت بالعود الأرض- ثم قال: ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار وإلا قد كتب شقية أو سعيدة.
فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:٥ - ١٠].
] وفي رواية: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
وهذا الحديث حجة في باب القدر، فالبعض يحتج بالقدر على فعل المعاصي، وهذا لا يجوز أبداً، فإذا قلت لأحدهم: صل.
قال: لا أصلي، ولو أراد الله أن أصلي لصليت.
وهذا صنيع المشركين، فقد احتجوا بالقدر على المعاصي والشرك، وهذا لا يجوز.
قال صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
والمعنى: أن الله بعلمه الأزلي علم أن العبد سيختار الصلاح أو ال