[باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن]
قال البخاري رحمه الله تعالى: [باب: من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن]، ثم قال: [باب: من لم يظهر حزنه عند المصيبة].
وكأن البخاري رحمه الله تعالى يقول: ما الأدب الواجب على المسلم عند حلول المصيبة، أي: عندما تنزل المصيبة ويعرف في وجه العبد الحزن، أو لا يعرف في وجهه الحزن؟ وأتى هناك بحديثين وهنا بحديث؛ وذلك ليبين أن هذا مشروع وذاك مشروع أيضاً.
قال البخاري رحمه الله: [حدثنا محمد بن المثنى: حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى قال: أخبرتني عمرة قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها قالت: (لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة، جلس يعرف فيه الحزن)]، أي: يعرف في وجهه أنه حزين؛ لما حصل من قتل هؤلاء في غزوة مؤتة.
وفي هذا مشروعية إظهار الحزن على الوجه عند حلول المصيبة، ويمكن ألا يظهر الحزن.
قال: [(وأنا أنظر من صائر الباب شق الباب، فأتاه رجل فقال: إن نساء جعفر وذكر بكاءهن)].
هذه الغزوة التي أمَّر فيها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من أصحابه: زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، فإن مات الأول انتقلت الراية إلى الثاني، وإن مات الثاني انتقلت الراية إلى الثالث، وسميت هذه المعركة بالغزوة رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهدها لسببين: السبب الأول: أنه ولى فيها أميراً.
السبب الثاني: لكثرة عدد المقاتلين فيها، فقد خرج جُلُّ الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم مصرع القواد الثلاثة وهو في المدينة، فقال لأصحابه: (استشهد زيد وانتقلت الراية من بعده إلى جعفر، ثم إلى عبد الله بن رواحة)، وعبد الله بن رواحة لما أخذ الراية ترددت نفسه قليلاً، فأخذ يخاطبها بأبيات شعرية: أقسمت يا نفس لتنزله لتنزلنه أو لتكرهنه قد أجلب الناس وشدوا الرنة ما لي أراك تكرهين الجنة يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيته فقد أعطيت إن تفعلي فعلهما هديت وسمي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في هذه الغزوة بالطيار، لأن يداه قد قطعتا في هذه الغزوة، فأبدله الله بجناحين يطير بهما في الجنة، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أوحي إليه بموتهم حزن، فجلس يعرف في وجهه الحزن، فأتاه رجل وقال: (إن نساء جعفر يبكين)، أي: أنه كان لـ جعفر أكثر من زوجة، وفي هذا إشارة إلى تعدد الزوجات في الإسلام، خلاف الذين يطعنون في الإسلام، فقد رسم أحدهم كاريكاتيراً وضع فيه صورة رجل ملتح وبجواره عدد من الزوجات، وقسم الرسام الرجل إلى نصفين: نصف مع الأولى ونصف مع الثانية، يعني: أنه يريد أن يقول: إن زوج الاثنتين يترك نصفه الأول هناك ونصفه الثاني هنا، أي: أنه لا يحقق العدل بين الاثنتين من نسائه، لذا فإن من أمثال هؤلاء يريدون للأمة أن تضيع معالمها، ثم يدندن هذا فيقول: إن التعدد في زمننا اليوم مستحيل، وأن الذين ينادون بالتعدد واهمون، وأن من مساوئ الشريعة إباحة التعدد! وهذا كلام لا يقوله إلا حاقد على الإسلام، إذ أن الإسلام قد راعى الفطرة، وراعى ظروف الناس وواقع المجتمعات، فحينما يزيد عدد النساء على عدد الرجال إن لم يكن التعدد فالزنا، فنحن نريد من هؤلاء أن يجعلوا لكل امرأة رجلاً، إما أن يكون بالزواج الصحيح، وإما أن يكون بالعشق والعلاقات المحرمة، وهذه معادلة نريد لها التوازن وازنوها إن استطعتم، فلن تتوازن إلا بالتعدد الذي أباحه الإسلام، لكن بالضوابط التي أمر بها الإسلام، قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:٣]، وقد اختلف العلماء: هل الأصل هو التعدد أو الأصل واحدة؟ فمنهم من قال: إن الأصل واحدة؛ لأن آدم لما خلقه الله خلق له حواء ولم يخلق له أربعة، ومات عن واحدة، لكنهم عادوا فقالوا: إن اختل الميزان وجب التعدد، وبعض الناس ينظرون إلى القضية نظرة هامشية فأرجو أن ننتبه إليها.
قال: [(فأمره أن ينهاهن، فذهب)].
يعني: عندما أخبره الرجل أمره أن يعود إليهن وينههن عن البكاء.
ثم قال: [(ثم أتاه الثانية: لم يطعنه، فقال: (انههن).
فأتاه الثالثة، قال: والله غلبننا يا رسول الله)]، يعني: لم نستطع أن نمنعهن عن البكاء.
يقول: [(فزعمت أنه قال: فاحث في أفواههن التراب، فقلت: أرغم الله أنفك - عائشة تقول للرجل- لم تفعل ما أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء)].
أي: أن الرجل ذهب وعاد عدة مرات، وهو يقول: لم أستطع أن أمنعهن م