للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

* من مواقفه:

قضى العلامة محمود شكري ثمانية أعوام من الشيخوخة المريضة، وقد عاشها في سلطان الاحتلال البريطاني للعراق، كارهًا له برمًا به غاضبًا عليه، لا يرى في ظواهر طبيعته وبواطنها ما يلائم منطق العقل أو يغري بقبوله؛ لأنه سلطان غريب، فرض نفسه بالحديد والنار، وليس له بأهل البلاد صلة من صلات الدين أو الجنس أو اللغة أو المصالح والغايات العليا المشتركة في أمر جامع من أمور الحياة.

ومع أن هذا السلطان قد اصطنع مجاملته فوقره وتحبب إليه وحرص على رضاه، لم تكن نفسه لتلتقي معه على شيء.

وقد أهدى إليه الذهب، وبه فقر إليه وخصاصه، فاستغنى عنه ورده وزجر حامله إليه؛ وأحدث له المنصب الرفيع الذي كان يتهافت على أصغر منه الكبراء، وهو منصب قاضي القضاة فرفضه؛ لأنه شَرَكٌ يستدرجه إلى تعاونه معه، وينطوي ذلك على الإقرار بشرعية هذا السلطان على البلاد، وهو شيء لا يستقيم مع عقيدته وفكره وهدفه، وقد كان يشبه بالنار، ويشبه أعوانه بالمكواة التي تحمى بها.

ومن هنا قاطع أخاه الأكبر حين خالف مشورته فقبل وزارة العدل في عهد الانتداب، وأقام على مقاطعته حتى فرَّق بينهما الموت، ورضي لنفسه ما كان رضيه لها من قبل؛ من شرف العلم وحده، فمضى في سبيله إلى الغاية التي توجه إليها منذ طفولته، وانقطع انقطاعًا تامًا للتدريس والتأليف، وعكف على التعبد وحفظ القرآن وتدارسه، ضاربًا أروع أمثلة الزهد والكبر على السلطان ومغرياته، مؤثرًا جوهر الباقية على عرض الفانية. (١)


(١) محمود شكري وآراؤه ص (٤).

<<  <   >  >>