للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ألا إنما الدنيا غضارة أيكةٍ ... إذا اخضر منها جانب جف جانب

هي الدار ما الآمال إلا فجائع ... عليها ولا اللذات إلا مصائب

وكم أسخنت بالأمس عينًا قريرة ... وقرت عيون دمعها الآن ساكب

فلا تكتحل عيناك منها بعبرة ... على ذاهب منها فإنك ذاهب

ولقد عمر ابن عبد ربه حتى الثانية والثمانين. وهو حين يصل إلى هذه السن الكبيرة يهتم ويشكو هموم الكبر وشكوى الشيخوخة، فيقول هذين البيتين الذين هما آخر ما قال من شعر:

بليت وأبلتني الليالي بكرِّها ... وصرفان للأيام معتوران

وما لي لا أبكي لسبعين حجة ... وعشر أتت من بعدها سنتان

والزهد في شعر أبي عمر، أحمد بن عبد ربه على صدقه، وعمقه ليس مجرد أبيات أو مقطعات قالها معبرًا عن هموم شيخوخته واسترخاص دنياه، وإنما كان للرجل مذهب فريد في هذا الضرب من الشعر. فقد أنشأ عديدًا من القصائد أطلق عليها الممحصات، وذلك أنه محص شعر شبابه بأن نقض كل قطعة قالها هناك في صباه في الصبابة والغزل بقطعة أخرى من بحرها وقافيتها في المواعظ، وهو مذهب لم يسبق إليه على قدر علمنا في مثل تلك الصورة.

وإذا كان لنا أن نتمثل لهذا النوع من شعر ابن عبد ربه، فهذه مقطوعة قالها في بعض من أحب وكان أزمع على الرحيل في غداة بعينها فأتت السماء في تلك الغداة بمطر غزير حالت دون رحيل ذلك الذي أحب فكتب أبو عمر ابن عبد ربه يقول١:

هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر؟ ... هيهات! يأبى عليك الله والقدر


١ معجم الأدباء "٤/ ٢١٦".

<<  <   >  >>