للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وللقلب منه ملة. وفي طباع البشر محبة الانتقال من شيء إلى شيء، والاستراحة من معهود إلى مستجد، وكل منتقل إليه أشهى إلى النفس من المنتقل عنه، والمنتظر أغلب على القلب من الموجود، وإذا كان هذا هكذا، فما رتبناه أحلى وأحسن، ليكون القارئ له بانتقاله من خير إلى غيره ومن قصة إلى سواها، ومن أخبار قديمة إلى محدثة، ومليك إلى سوقة وجد إلى هزل أنشط لقراءته وأشهى لتصفح فنونه، ولا سيما والذي ضمناه إياه أحسن جنسه، وصفو ما ألف في بابه، ولُباب ما جمع في معناه"١.

ولعل أكثر الأدباء الأعلام تحمسًا للأغاني، هو الصاحب بن عباد حين أكثر القول في استغنائه به عن كتبه مقيمًا ومرتحلًا واصفًا الكتاب بأنه مشحون بالمحاسن المنتخبة والفقر الغريبة، فهو للزاهد فكاهة وللعالم مادة وزيادة، وللكاتب والمتأدب بضاعة وتجارة وللبطل رجلة وشجاعة، وللمتطرف رياضة وصناعة، وللملك طيبة ولذاذة٢.

إن للأغاني كل هذه الوجوه المشرقة من الجودة والإفادة والإتقان والأعماق، والجهد والإبداع، ولكن في الكتاب الكثير مما ينبو عن الذوق، وتنفر منه النفس السوية، وتتقزز منه السليقة المستقيمة، فهو مليء بالقصص المستهجنة، والحكايات الخليعة والأشعار البذيئة والاصطلاحات الساقطة، وإكثار من ذكر العورات وتعريتها في إلحاح وإلحاف يبدوان وكأنهما مقصودان. إن كل كتب أدبنا القديم لا تخلو من شيء من ذلك، ولكنها تجيء بنت المناسبة وفرض السياق، وأما الأصبهاني فكأنما كانت القبائح الكثيرة الوفيرة التي ذكرها هدفًا من أهداف الكتاب، بل أغلب الظن أنها لكذلك، ولو أنه يسر على نفسه ولم يسرف على القراء بالإلحاف في ذكر ما ذكر من إباحية ومخاز، لما نقص الكتاب شيئًا بل إنه كان زاد قدرًا وسما منزلة، ولا حاجة بنا إلى أن نشير إلى أن احتواء هذا الكتاب على الساقط من القصص والخليع من الأخبار ينال منه عند ذكره نيلًا شديدًا، ولقد تنبه إلى ذلك بعض الفضلاء من الأدباء الأقدمين فجردوه من مباذله وقدموه، نظيفًا طهورًا تحت اسم "مختصر" أو "منتخبات" أو "تهذيب" أو غير ذلك مما سوف نذكره بعد قليل.

هذا من الناحية الأخلاقية والاجتماعية، وأما من الناحية المنهجية، فهناك بعض المآخذ على الكاتب حين أغفل ترجمات بعض كبار شعراء العربية مثل أبي العتاهية وأبي نواس وابن الرومي.

لقد نبهنا ياقوت الحموي إلى شيء من ذلك في نقده للكتاب وقد قرأه مرات واستوعبه


١ مقدمة الأغاني "ص٧".
٢ أبو الفرج في أغانيه "ص١٨٦" عن تجريد الأغاني لابن واصل الحموي.

<<  <   >  >>