إنه زاره في مدينة الحديثة في أواخر القرن الرابع أو أوائل الخامس؛ لأن ابن النديم توفي بعد سنة الأربعمائة الهجرية غير أنه لا يهمنا من ابن النديم أو صاحبه محمد بن الحسين شيء إلا ما كان عند محمد بن الحسين هذا من أوراق مجموعة في خزانة شملت قطعًا من الكتب القديمة وأبوابًا من النحو واللغة والأدب.
يقول ابن النديم: إنه لقي محمدًا هذا على دفعات وكان نفورًا بما عنده، خائفًا من بني حمدان، ويستطرد ابن النديم، فيقول: أخرج لي قمطرًا كبيرًا فيه نحو ثلاثمائة رطل من جلود وصكاك وقراطيس وورق صيني وورق تهامي وجلود أدم فيها تعليقات عن العرب وقصائد مفردات من أشعارهم وشيء من النحو والأخبار والحكايات والأسماء والأنساب، ولكنها كانت خلقة، أي بالية، وكان على كل ورقة مدرج توقيع بخطوط العلماء واحدًا إثر واحد. ويمضي ابن النديم قائلًا: ورأيت في جملتها مصحفًا بخط خالد بن أبي الهياج صاحب علي، ورأيت فيها بخط الإمامين الحسن والحسين، ورأيت عنده أمانات وعهودًا بخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وبخط غيره من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن خطوط علماء النحو واللغة أمثال أبي عمرو بن العلاء، وأبي عمرو الشيباني. ويستطرد ابن النديم قائلًا إنه رأى معلومات في النحو عن أبي الأسود الدؤلي مكتوبة بخط يحيى بن يعمر، وأشياء أخرى مكتوبة بخط النضر بن شميل١.
كل هذه وثائق تدل على بكور التدوين والتصنيف، فإذا صح الخير الذي يقول إن كعب الأحبار الذي مر ذكره والمتوفى سنة ٣٤هـ قد ترك كتابًا في تاريخ الإسكندر، كان أمر التأليف فضلًا عن التصنيف والتدوين بدأ مبكرًا كل التبكير.
هذا وقد سبق القول قبل قليل أن وهب بن منبه قد صنف كتابًا في تاريخ المتوجين من ملوك حمير.
إن كل هذه التصنيفات قد تمت في عهد الصحابة الذي يندرج تحته العهد الأموي المبكر، فإذا دلفنا إلى صميم العصر الأموي توالت علينا الأخبار التي تحمل في ثناياها ما يفيد تصنيف الكثير من الكتب التي كان الخاصة من الناس يقرءونها ويقتنونها في بيوتهم وخزائنهم. فهذا هشام بن عروة بن الزبير بن العوام يذكر أن أباه عروة بن الزبير، وهو من الطبقة العليا من التابعين، أحرق يوم الحرة كتب فقه كانت له -أي من تأليفه- ثم حزن عليها وظل يردد بعدها: لأن تكون عندي أحب إلي من أن يكون لي مثل أهلي ومالي.
وعروة هو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة وكان عالمًا بالدين صالحًا كريمًا، وهو أخ