للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأحاديث أو أقوال صحابة الرسول، فهو يفسر لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، بأن الخليفة يطاع في ما لا يطاع فيه غيره، ويورد وجهات نظر مختلفة متعددة.

٤- كليلة ودمنة: وهذا العمل من لدن ابن المقفع هو من قبيل الترجمة. والكتاب هندي أصلًا نقل إلى البهلوية على أيام كسرى أنوشروان، ثم تولى ابن المقفع نقله من البهلوية إلى العربية الناصعة البليغة بحيث أصبح أسلوبه فيه معروفًا بالأسلوب السهل الممتنع.

لقد قيل إن ابن المقفع بترجمته هذا الكتاب وكتابة مقدمته مكن لنفسه أن يقول فيها ما لم يستطيع أن يقوله في رسالة الصحابة، حين جعل نفسه من المنصور العباسي بمثابة بيدبا الفيلسوف الهندي من الملك الهندي دبشليم، وهو لذلك يقول في تلك المقدمة: فلما استوثق له الأمر واستقر له الملك، طغى وبغى، وتجبر وتكبر، وجعل يغزو من حوله من الملوك وكان مع ذلك مؤيدًا مظفرًا منصورًا، فهابته الرعية، فلما رأى ما هو عليه من الملك والسطوة عبث بالرعية واستصغر أمرهم، وأساء السيرة فيهم، وكان لا يرتقي حاله إلا ازداد عتوًّا فمكث على ذلك برهة من دهره. وكان في زمانه رجل فيلسوف من البراهمة، فاضل حكيم يعرف بفضله ويرجع في الأمور إلى قوله، يقال له: بيدبا، فلما رأى الملك وما هو عليه من الظلم للرعية، فكر في وجه الحيلة في صرفه عما هو عليه ورده إلى العدل والإنصاف ... إلى آخر المقدمة التي جعلت من بيدبا موجهًا وناصحًا مؤنبًا للملك الهندي.

إنه لا يعنينا ما قد ذهب إليه بعض الدارسين من أن ابن المقفع قد اصطنع هذه المعاني اصطناعًا ليقرأها المنصور العباسي حينما كان الكاتب لا يستطيع أن يواجهه بها، فذلك ضرب من الافتراض، واجتهاد في الاستنتاج قد يصح وقد يخطئ، وإنما الذي يعنينا هو هذه اللغة السهلة، وهذا الأسلوب الواضح الرائق الذي وصل إليه القلم العربي فأصبح العقل من خلاله قادرًا على التعبير والابتكار والتأليف.

وإذًا، فابن المقفع في حد ذاته يعتبر ظاهرة واضحة المعالم في مرحلة التأليف الفكري العربي بعيدًا عن التزام العلوم الدينية، ونحن لا ندخل في ذلك أي اعتبار من فارسية أو غيرها، فالرجل شأنه في ثقافته شأن عبد الحميد، كلاهما تعلم العربية من مصادرها وثقف نفسه ثقافة فكرية إسلامية دينية واجتماعية، ومن خلال هذه الثقافة انبثق المعين الفياض على يد ابن المقفع ومن عاصره، ثم من جاء بعده من كبار مؤلفي العربية في فترة لم تبعد زمنيًّا عن حياته بعد بيِّنًا.

<<  <   >  >>