[عظم وجود النبي صلى الله عليه وسلم القدري في اصطفاء الصحابة الكرام لصحبته]
تنبيه: لا شك أن تسجيل صفات الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في الكتابين السابقين مع تعريفه صلى الله عليه وسلم؛ شرف عظيم لهم وتكريم جليل له في بيان نوعية الذين معه، وأنه تعالى كما اختاره واصطفاه اختار واصطفى له من يكون معه في أعلى المستويات.
ومما يسترعي الانتباه أنه لم يقتصر على مثال واحد للأمتين اليهود والنصارى، بل أفرد كل أمة بمثال مستقل ومغاير للآخر، فجعل مثالهم لليهود روحانياً سامياً: {رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:٢٩]، وذلك أن اليهود غلبت عليهم الماديات، فاحتالوا على ما حرم الله، وظهر ذلك في قضية يوم السبت.
فبيّن سبحانه وتعالى فضل أصحاب رسول الله بعزوفهم عن الدنيا ورغبتهم في الآخرة: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:٢٩] سماحةً ونوراً ورونقاً وبهاء، استنارت قلوبهم بالطاعة ففاضت على محياهم بالنور {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:٢٩] المنزل على اليهود.
{وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح:٢٩] المنزل على النصارى {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح:٢٩] وهو النبت الذي يخرج في أصل العود كالذرة والحب فكبر فآزر الفرع الأصل {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى} [الفتح:٢٩] وقام على سوقه مستوياً ملتفاً بعضه ببعض في قوة، يشد بعضه بعضاً ليعظم منظره ويجود مخبره ويضاعف إنتاجه ومحصوله {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:٢٩]، ويقدم لهم هذا الوعد المحتوم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:٢٩].
وهنا ما يسترعي الانتباه: وهو أنه سبحانه خص اليهود بالوصف بالجانب الروحي في العبادة وابتغاء الفضل من الله، وخص النصارى بالوصف بالجانب المادي في الزرع والاستثمار، وللمتأمل المسترشد أن يقول: إن كل مثال في مكانه أبلغ، وهو لمن خصه به أنسب؛ لأن اليهود غلبت عليهم القسوة والشدة، فوصف لهم أصحاب محمد بالرحمة: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:٢٩]، واليهود سيطرت عليهم المادة حتى احتالوا على ما حرم الله، وتهربوا من التزامهم بالشريعة كالصيد المحرم عليهم يوم السبت، حيث كانوا يلقون الشباك يوم الجمعة ويسحبونها يوم الأحد، والشحوم التي أذابوها وجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها وهي محرمة عليهم، وتخاذلهم عن دخول الأرض التي أمروا بدخولها، وقولهم لموسى عليه السلام: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤].
بينما أصحاب محمد وقافون عند النهي سباقون عند الأمر، وهم القائلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (والله لا نقول لك كما قال اليهود لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤] ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك).
فلعل اليهود بسماعهم وصف أصحاب محمد يكبحون جماح المادة ويعودون إلى الله! أما النصارى فكانوا على نقيض ما عليه اليهود، فقد أهملوا الجانب المادي وأغرقوا في الرهبنة وعطلوا مناهج الحياة: {وقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:٢٧].
فلعلهم بسماع وصف أصحاب محمد بالزرع والنماء يخففون من رهبانيتهم وينتبهون إلى أعمال دنياهم.
وبهذه المناسبة فإن هذه الأمة -ومنها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم- قد أخذوا بأحسن الخطتين الموضحة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:٩] إلى قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:١٠]، فجمعوا بين السعي إلى ذكر الله والانتشار في الأرض.