[عظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم في ذاته وفي تقدم نبوته على الأنبياء]
لقد ذهب بعض المختصين في البحث عن ذلك إلى أول نقطة وجوده صلى الله عليه وسلم، وفي نظري أن وجوده صلى الله عليه وسلم يرجع إلى أمرين: وجود قدري في عالم الملكوت، ووجود في عالم الإنسان.
أما وجوده القدري: فقد ذهب البعض فيه إلى مسافات بعيدة، إلى ما قبل آدم عليه السلام؛ لأن بعد تلك المسافة لم تكن طريقها ممهدة فأجهدتهم، كما أن سلطان العاطفة قد دفعهم إلى أخذ كل ما وجدوه مما فيه تعظيم لقدره صلى الله عليه وسلم.
وهنا مبحث تعارض العقل مع العاطفة، ولكل منهما مقامه، فمن ذلك على سبيل المثال: لما كانوا في غزوة تبوك، وقاموا يتهيئون لصلاة الصبح، وذهب صلى الله عليه وسلم للخلاء فأبعد وتأخر عليهم، فانتظروه ليصلي بهم حتى أسفروا، فتحيروا هل يصلون قبل خروج الوقت، أم ينتظرون قدومه؟ والعاطفة مع الانتظار ليصلي بهم، والعقل مع الإسراع وإدراك الوقت، فقدموا العقل وصلى بهم ابن عوف رضي الله تعالى عنه، وجاء صلى الله عليه وسلم وهم في الركعة الثانية، فأراد المغيرة أن ينبه الإمام ليتأخر ويتقدم صلى الله عليه وسلم للإمامة، فمنعه النبي ودخل في الصف، ولما سلم الإمام قام صلى الله عليه وسلم فأتم الركعة التي فاتت، ولما رآهم أسفوا لذلك قال: (ما قبض الله روح نبي إلا وقد صلى خلف أحد من أمته) أي: أنهم أصبحوا أهلاً للإمامة.
وكذلك موقف الصديق لما قال صلى الله عليه وسلم في مرضه: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ولما أقيمت الصلاة وجد صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة فخرج فنبهوا أبا بكر، فأخذ يتراجع، فأومأ إليه صلى الله عليه وسلم أن مكانك، وكان أبو بكر بين العاطفة والعقل، فالعاطفة: ألا يتقدم على رسول الله، والعقل: أن يمتثل أمره ويبقى مكانه، لكنه قدم العاطفة فتأخر وصلى بهم رسول الله، ولما فرغ قال له: (ما الذي منعك أن تبقى إذ أمرتك؟ قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم على رسول الله).
وفي كل من تقدم ابن عوف وتأخر أبي بكر وجهته، وقد أقر صلى الله عليه وسلم كلاً منهما على فعله، وهكذا لكل مقام مقال.
وجميع كتّاب السيرة قد ذهبوا في بدايته وبداية وجوده القدري إلى ما قبل وجوده الفعلي، إلا أن منهم من أبعد الغاية وطوّل الطريق، فنقلوا آثاراً تنتهي إلى ما قبل آدم وربما إلى ما قبل خلق السماوات والأرض، وحصروا أولية الوجود في ثلاثة: العقل، والقلم، ونور محمد صلى الله عليه وسلم، وأن اسمه مكتوب على ساق العرش وعلى ورق الجنة وثمارها.
ومنهم من وقف عند خلق آدم، وهو بين الروح والجسد، أو وهو مجندل في طينته، وأثبت له النبوة هناك وقالوا: لقد أخذ نوره يتنقل في أصلاب آبائه حتى درج للوجود الفعلي مستأنسين بقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:٢١٧ - ٢١٩]، ذهبوا إلى أن (تقلبه) أي: تقلب نوره في أصلاب آبائه من النبيين قبله، ولكن تعقبهم النقّاد وقالوا: إن أباه إبراهيم لم يكن أبوه آزر من النبيين ولا حتى من المؤمنين، ونحن نقول: إن أباه صلى الله عليه وسلم عبد الله لم يكن من النبيين، بل كان من أهل الفترة على التحقيق.
وقد ذكر السيوطي رحمه الله في كتابه الخصائص الذي قال عنه في مقدمته: كتاب فاق الكتب في نوعه جمعاً وإتقاناً، يشرح صدور المهتدين إيقاناً، ويزداد به الذين آمنوا إيماناً إلى قوله: مستوعباً لما تناقله أئمة الحديث بأسانيدها المعتبرة إلى أن قال: أوردت فيه كل ما ورد، ونزهته عن الأخبار الموضوعة وما يرد، وتتبعت الطرق والشواهد لما ضعف من حيث السند.
انتهى، وتعقبه الشيخ الهراس رحمه الله: بأنه لم يلتزم كل ذلك، وقال في هذا الكتاب -أي: السيوطي - باب خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بكونه أول النبيين في الخلق، وتقدم نبوته وأخذ الميثاق عليه، وساق تحت هذا العنوان ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، وأبو نعيم في الدلائل من طرق عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:٧] الآية.
قال: (كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث) فبدأ به قبلهم.
ونقل السيوطي أيضاً: أن أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين سئل: كيف صار محمد صلى الله عليه وسلم يتقدم الأنبياء وهو آخر من بعث؟ قال: لما {أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:١٧٢] كان محمد أول من قال: (بلى).
ومن ذلك ما عزاه لـ أحمد والبخاري في تاريخه وغيرهما عن ميسرة قال: قلت: (يا رسول الله! متى كتبت نبياً؟ قال: وآدم بين الروح والجسد).
وكذلك ما عزاه لـ أحمد والحاكم والبيهقي عن العرباض بن سارية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمجندل في طينته).
وساق أيضاً: أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أي شيء كان أول نبوتك؟ قال: أخذ الله مني الميثاق لما أخذ من النبيين ميثاقهم، ودعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام) انتهى.
وهذه كلها بدون شك آثار وأخبار تدل على علو شأنه وعظيم قدره، إلا أن بعضها لم يسلم من النقّاد في التفتيش عن السند، وهذا صاحب (سبل الهدى والرشاد في هدي خير العباد) قال: هذا كتاب اقتضبته من أكثر من ثلاثمائة كتاب إلى أن قال: ولم أذكر فيه شيئاً من الأحاديث الموضوعة إلخ.
قال فيه: الباب الأول في تشريف الله تعالى له صلى الله عليه وسلم لكونه أول الأنبياء خلقاً، ذكر في هذا الباب أثر ابن أبي حاتم الذي ذكره السيوطي: (كنت أول الأنبياء خلقاً).
وذكر المحشي عليه عدد من خرّجه: ابن عدي وأبو نعيم وابن كثير في التاريخ والثعالبي إلى آخره.
ثم قال: وروى أبو سعد النيسابوري في الشرف وابن الجوزي في الوفاء عن كعب الأحبار قال: لما أراد الله سبحانه أن يخلق محمداً صلى الله عليه وسلم أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض وبهاؤها ونورها، فهبط جبريل في ملائكة الفردوس وملائكة الرفيق الأعلى، فقبض قبضة رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع قبره الشريف وهي بيضاء نيرة وعجنت بماء التسنيم في معين أنهار الجنة، حتى صارت كالدرة البيضاء لها شعاع عظيم، ثم طافت بها الملائكة بين العرش والكرسي والسماوات والأرض، فعرفت الملائكة محمداً قبل أن تعرف آدم أبا البشر، ثم كان نور محمد يرى في غرة جبهة آدم، وقيل له: يا آدم! هذا سيد ولدك من المرسلين إلى قوله: ثم لم يزل النور يتنقل من طاهر إلى طاهر إلى أن ولد صلى الله عليه وسلم.
وأقول: هذا من الإسرائيليات التي تنقل في غير تشريع.