للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأتِ الذي هو خير

الشرح: قال رحمه الله: عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمنيك وائت الذي هو خير) متفق عليه.

هذا الحديث يعتبر باباً بذاته، وهو كيف يخرج الإنسان من عهدة اليمين ويسلم الحنث فيما بينه وبين الله؟ أي: ليس يتعلق بها حقوق للآخرين، وليست في معرض القضاء والدعاوى، وليست في معرض الصلح والإصلاح، ولكن في حلف الإنسان نفسه ومنهجه في تعامله، كما لو قال: والله! لا أكلم فلاناً.

فهذا يمين، ولكن قوله: لا أكلم فلاناً.

إن التزم بهذا اليمين وطال به المدى؛ فقد يؤدي ذلك إلى قطيعته لأخيه المسلم ونحو ذلك، فقد يكون سبب اليمين مشكلة بينه وبين هذا الشخص، أو عللاً قائمة، أو مزاحمة ومنافسة، أو خصومة، أو حسداً، أو أي شيء آخر سَبَّبَ هذه اليمين فحلف على أن لا يكلمه، ثم بعد مدة ذهبت تلك العلة، وصفا الجو، ورأى أن يكلمه، فلأن يكلم أخاه خير من أن يبقى على خصومته، كما جاء في الحديث: (لا يحق لامرئ مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام).

وهذا الحالف أراد أن يخرج من عهدة هذه اليمين، ويعود إلى كلامه مع صاحبه، ماذا يفعل؟ أعرض مسألة عرضت على بالي، وأنا أتهيب من المسائل التي لا أجد لي فيها سلفاً ذكرها واعتمدها في هذا الموضوع.

إذا جئنا إلى كتاب الله، وجئنا إلى كفارة الظهار، ماذا نجد؟ {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} [المجادلة:٢] ماذا؟ {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:٣]، (يعودون) أي: يريدون العودة إلى الحياة الزوجية فيعود المظاهر إلى زوجته بإمساكها، لأن المظاهر هو بين أحد أمرين: إما أن يمضي ويتركها في ظهارها ولا تحل له بعد ذلك، أو أنه يَحلُّ يمين الظهار، وجاء القرآن فماذا قال؟ {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أَنْ يَتَمَاسَّاِ} [المجادلة:٣].

ما معنى الظهار؟ معناه: أن يقول لزوجته: (أنت عليّ حرام كظهر أمي).

إذاً الظهار يُحرِّم وطء الزوجة.

وهنا: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:٣] ولكن الله حييٌ يكني ولا يصرّح، كقوله في سورة أخرى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:٤٣].

وقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) فهنا نص صريح بأن يكفّر عن يمين الظهار من قبل أن يطأها، ولم يقل: يتماسا ثم يكفر، فنجد هنا أن النص القرآني الكريم يقدم الكفارة على المماسة {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:٤]، فيصوم شهرين حتى تتم الكفارة بالصيام، ولا يقرب زوجته حتى تتم الكفارة، ومن لم يطق الصيام فليطعم ستين مسكيناً، وهذا فيه تفصيلات لا يتسع المجال لذكرها.

والذي يهمنا: التنصيص على أنه يكفّر (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا)، فلو أخذنا هذه الآية الكريمة وجعلناها شاهداً أو قرينة لا نقول: نصاً، فذاك موضوع وهذا موضوع، لكن التنصيص على تقديم الكفارة في نظيرها، ويستأنس به في تقديم الفعل -تقديم الكفارة- ووجدنا القرآن يقدم الكفارة على الفعل، ووجدنا (ثم) ترجح تقديم الكفارة على الفعل.

يقول القرطبي رحمه الله: لا يجوز له أن يعود في الظهار قبل أن يكفر، فإن عاد قبل أن يكفر عصى الله.

وعليه أن يكفر خلافاً لمن يقول: سقطت الكفارة؛ لأن الله قال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:٣]، أفإذا وطأها من قبل أن يتماسا سقطت الكفارة؟ يعني: أعتدي وتسقط الكفارة؟ لا، بل يكون قد ارتكب إثماً وعليه الكفارة قضاء؛ لأن محلها قبل المجيء، إذا حلفت على يمين ووجدت غيرها خيراً منها، فلا تكن عنيداً مصرّاً على القطيعة، فهذا صديقك وهو أخوك وبينكما عشرة و (عيش وملح) وصداقة.

وهذا الحلف له ما يفكه، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى أن جعل للإنسان من كل ضيق مخرجاً، وكنت -منذ زمن- أقول: لا يوجد في الإسلام طريق مسدود.

افرض أنه في ساعة غضب، حلف هذه اليمين، ثم بعد ذلك تأسف وندم، فهل يظل حبيس يمينه أو نجد له مخرجاً؟

الجواب

نجد له مخرجاً.

والثانية أيضاً: قضية اللعان، رجلٌ رأى بعينه ما لا يصبر عليه الحيوان، ولكن السيف على رأسه، إن أتى ببينة أربعة شهود، وإلا جُلد ظهره، إن سكت سكتَ على غيظ، وإن تكلم خاف السوط على ظهره فماذا يفعل؟ قال سعد بن عبادة: (أتركه وأمضي وأذهب وآتي بالشهود؟! -ويعود وقد حاجته ومضى- والله لئن رأيت لأضربن بسيفي)، وبعض الروايات: (بين فخذيها)، والذي يكون هناك يحصل السيف.

إذاً: الطريق -فعلاً- مسدود، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل للزوج الذي شاهد المكروه من أهله مخرجاً، ولهذا لا يكون اللعان إلا بين الزوجين، أما إنسان اتهم بالزنا وقال: أنا ألاعن! لا، أو امرأة ادعت الزنا وقالت: أنا ألاعن، لا؛ لأنه لا يلحق الزاني أو الزانية معرة ما يلحق الزوج في زوجته.

إذاً في هذا الحديث: إيجاد نافذة يخرج منها الإنسان فيما عليه في يمين ووجد ما هو خير له، ولا يحرم من الخير ولا يلزم بتلك اليمين، بل يأتي بما يفكها ويكفر عنها، وبهذا يكون قد تحلل منها، والله تعالى أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>