[إرشاد المنهج القرآني للأمة في كيفية التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم]
ومسك الختام بعد هذه الجولة السريعة، نأتي ونتمهل أمام المنهج القرآني المنزّل، الذي جاء بالغاية القصوى في هذا المجال، فبيّن منتهى رفعة شأنه وعظيم قدره، فأدّب الأمة معه صلى الله عليه وسلم في جميع الجوانب وجميع الاعتبارات.
أولاً: جانب الرسالة لاعتباره رسولاً، وجانب النبوة لاعتباره نبياً، وجانب الإنسانية لاعتباره إنساناًً، والجانب العام باعتبار عموم حقه حاضراً أو غائباً؛ وذلك في أوائل سورة الحجرات: أما جانب الرسالة فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:١] أي: كونوا متبعين إياه، ولا تتقدموا عليه ولا تقدموا آراءكم بين يديه، وذلك رداً عليهم في صلح الحديبية حينما امتنعوا من التحلل، حين لجت القضية وتم الصلح، حتى رأوه صلى الله عليه وسلم بنفسه ينحر ويحلق.
بل جاء عمر إلى أبي بكر وحاجّه قائلاً: علام نعطي الدنية في ديننا؟ ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فيقول له الصديق: بلى، ولكنه رسول الله فالزم غرزه يا عمر! ويقول عمر: وأنا والله أعلم أنه رسول الله.
لا شك أن أبا بكر لم يُرد سائدة الخبر عند البلاغيين؛ لأنه يعلم أن عمر يعلم أنه رسول الله، ولكنه أراد لازم الخبر، وهو أن كونه رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزم اتباعه؛ لأنه إنما يعمل بتوجيه من الله، فلم ينتبه لها عمر وذهب إلى رسول الله وعرض عليه ما عرضه على أبي بكر، وكان جوابه طبق ما أجاب به أبو بكر: (يا عمر أنا عبد الله ورسوله)، فكان ذلك من عمر تقدم بين يدي الله ورسوله.
وقد نزلت سورة الفتح في طريق العودة إلى المدينة وبعدها جاءت سورة الحجرات.
أما جانب النبوة: فأدب في الحديث عنده: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:٢] ولو كان الصوت بتلاوة القرآن، {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض} [الحجرات:٢] أي: نوعية الحديث وكيفيته مع شدة التحذير: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:٢] أي: لعدم إعظامكم عظيم قدره، وما أحد عرفه إلا الرجل الثاني بعد النبي في الأمة من لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح عليها، ألا وهو أبو بكر الصديق وذلك حين قال لـ عمر: إنه رسول الله فالزم غرزه.
ثم جاء التذييل بتنبيه الغافلين: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:٣].
أما الجانب الإنساني: فرب أسرة، وله حرمة لبيته؛ فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات:٤ - ٥].
وأما الجانب العام: فقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:٦] إلى قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات:٧] أي: فإن الله يكشف لرسوله الحقائق.
فهذه النداءات للذين آمنوا وتلك الآداب الرفيعة في حقه في مختلف المجالات، والتي فهمها سادة الصحابة، ستظل قرآناً يتلى في كل جيل، وهي كافية لبيان علو شأنه عند ربه وعظيم قدره على عموم خلقه.
ومن هذا المنطلق فقد جعل صلى الله عليه وسلم من الأميين في أقل مدة تاريخية {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:١١٠] أمةً وسطاً عدولاً، وأمة شهادة على الناس قبلهم، وكان الرسول عليهم شهيداً.
وفي ذلك اليوم يكون الموقف الذي يتعطل البيان عنه ويتلعثم اللسان فيه ويحار العقل وتختلف المقاييس، موقف يشهده الأولون والآخرون، وفيهم الأنبياء والمرسلون، حين يُطلبون للشفاعة ويعتذرون ويقولون: (نفسي نفسي) وكل يحيل على من بعده من آدم أبي البشر إلى الخليل أبي الرسل إلى موسى، ثم إلى عيسى كلمته وروح منه، حتى يُنتهى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: (نعم، أنا لها أنا لها، فيذهب فيسجد تحت العرش، ويلهمه الله بمحامد لم يك يعلمها قبل، إلى أن ينادى: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فيقول: يا رب! فصل القضاء) وهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون.
(ثم يذهب ويطرق باب الجنة فيقال: من؟ فيقول: محمد، فيقول الخازن: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك، ثم يأذن الله له بالشفاعة لأمته حتى يُخرج من النار كل من قال لا إله إلا الله، أو كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان).
رزقنا الله وإياكم جميل حبه، وعلمنا عظيم قدره، وجعلنا في شفاعته واتباع سنته، صلوات الله ربي عليه وسلامه.
والسلام وعليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.