[نور النبوة المحمدية يتقلب في الأصلاب]
ثم قال صاحب سبل الهدى: وفي كتاب الأحكام للحافظ الناقد أبي الحسن بن القطان، روى علي بن الحسين عن أبيه مرفوعاً: (كنت نوراً بين يدي ربي عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام)، ولم يعلق المحشي على ذلك بشيء.
ونقل في باب آخر قول ابن رجب في اللطائف على حديث: (إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين) قال: المقصود من هذا الحديث: أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مذكورةً معروفةً قبل أن يخلقه الله تعالى ويخرجه إلى دار الدنيا، وأن ذلك كان مكتوباً في أم الكتاب من قبل نفخ الروح في آدم عليه السلام.
ثم قال المؤلف: أداء لأمانة العلم كتعليق على ذلك: هناك تنبيهان: الأول: ما اشتهر على ألسنة الناس بلفظ: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين)، قال ابن تيمية والزركشي وغيرهما من الحفاظ: لا أصل له.
وكذلك قوله: (كنت ولا آدم ولا ماء ولا طين).
الثاني نقل عن السبكي قوله: لم يصب من فسّر: (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد) بأنه سيصير نبياً؛ لأن علم الله تعالى محيط بجميع الأشياء إلى آخر كلامه الملخص في أنه لو كان المراد ما كان في علم الله لما كان للنبي صلى الله عليه وسلم زيادة فضل على غيره، سواء من الأنبياء أم عامة الخلق.
وهنا يمكن أن يقال تعليقاً على هذين التنبيهين: أما الأول فإننا لم نجد اللفظ الذي قال عنه الإمام ابن تيمية: إنه لا أصل له، ثم إنه لم ينقل لنا عن هذا الإمام الجليل رحمه الله -وهو الناقد البصير- عن قضية النور شيئاً، ولا عن تقلبه في الأصلاب حتى ولد.
ولعل مما يناسب ذكره هنا ما ذكره ابن هشام وغيره: أن أخت ورقة بن نوفل لقيت عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم يوم مفاداته بمائة من الإبل فقالت له: هل لك أن تذهب معي إلى بيتي ساعة ولك مائة من الإبل مثل التي فوديت بها اليوم؟ فاستمهلها حتى يصل مع أبيه إلى بيته، ولكن أباه لم يذهب إلى البيت وذهب إلى بني زهرة، وخطب له آمنة بنت وهب فتزوجها ودخل عليها في ليلته، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الغد لقيته تلك المرأة فأعرضت عنه فقال لها: مالك لا تعرضين عليَّ اليوم ما عرضته عليَّ بالأمس؟ فقالت: أما الآن فلا حاجة لي بك، كنت بالأمس أرى بين عينيك وبيص نور طمعت أن أظفر به، ولكن فازت به آمنة بنت وهب.
ويمكن أن يقال: إن هذا الخبر مع أحاديث تقلب النور في الأصلاب ولو ضعفت الأسانيد فإنه يشد بعضها بعضاً، ولا سيما أنها ليست تشريعاً.
وقد ساق صاحب سبل الرشاد قصة هذا النور بين عيني عبد الله بطرق متعددة، منها ما عزاه لـ فاطمة الخثعمية، وذكر من هذا الطريق جواباً لـ عبد الله لهذه المرأة يدل على رفضه ما عرضته عليه فقال: أما الحرام فالممات دونه والحل فلا حل أستدينه فكيف بالأمر الذي تبغينه يحمي الكريم عرضه ودينه ثم روى عن البيهقي وأبي نعيم عن ابن شهاب: أن عبد الله كان أحسن رجل رئي، فمر على نساء من قريش فقالت امرأة منهن: أيتكن تتزوج هذا الفتى فتصطب النور الذي بين عينيه، فإني أرى بين عينيه نوراً إلخ.
فرؤية النور بين عيني والده الوارد بطرق متعددة سالمة أسانيدها من الوضع -كما قال عنها أصحابها- ولا شك أنها تترك أثراً بالغاً في الدلالة على عظيم قدره وعلو شأنه وطهارة نسبه من نكاح لا سفاح فيه، كما قال القائل في ذلك: نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداً كيف لا، والله تعالى يقول في حق إحدى زوجاته ما يعم أهل البيت جميعاً: {إِِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:٣٣]، فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى وأحق بذلك.
وكما قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كيف وقد قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:٤ - ٥] وطهارة نسبه أولى وأحق.
وبعد هذا التمهيد الطويل نقول: إن بيان عظيم قدره وعلو شأنه قد يكون بالنسبة إليه -كما أسلفنا- بمثابة تحصيل الحاصل، وأنه في غنىً عن ذلك؛ لأنه في ذاته معجزة تشهد بعلو قدره ورفعة شأنه، كما قال ابن رواحة رضي الله تعالى عنه: لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر ولدينا من النصوص الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة ما يغني، ولن نبعد كما أبعد الآخرون، وإن كان المبدأ عند البعض قول البوصيري في البردة: دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم