ومن ناحية الحقوق القضائية التي أشرنا إليها، يتفق الفقهاء على أن الجار يجب أن يراعي حرمة الجوار، وليس له التصرف في ملكه بما يضر جاره، وقالوا: لا يحق للإنسان أن يحدث في ملكه ما يضر بجاره، وكيف هذا؟ مثاله: أن يبني كنيفاً -أي: مرحاضاً- بجوار جدار جاره، فإذا كان الجدر مبنياً بالطين، فإن الجدران تتضرر بهذا، وإذا حفر بئراً في أرضه فجفت بئر جاره لاشتراك المراوي في البئرين، فإنه يحكم عليه القاضي بردم بئره ليعود الماء إلى بئر جاره.
وكيف نعرف أنها جفت بسبب بئر الجار؟ يقول الفقهاء: نضع النفط -أي: الجاز- في بئر المشتكي، وننظر إلى ماء البئر الجديدة فإن وجدنا ريح الجاز فيها، فهذا يدل على أن الماء يأتي من البئر القديمة.
ومن قبل كان كل بيت يحفر بلاعة له، فلو أنه حفر بلاعة فتسربت على بئر الجار وأفسدت ماءها، وجب عليه أن يدفنها.
وهكذا لا يحق للجار أن يجعل في بيته مدبغة فيتأذى الجيران بالرائحة، ولا يجوز للقصار يدق الثياب ويزعج جاره، ولا ينشئ مكائن تهز جدران بيت الجار، فلا يحق للشخص أن يحدث في ملكه الخاص ما يضر بجاره، وإذا خرج غصن شجرة جاره إلى هوائه، فليرده برفق ثم يعلم صاحب الغصن بذلك، فإذا لم يرده فحينئذٍ يأتي حكم آخر.
نأتي إلى قوله عليه الصلاة والسلام:(حتى ظننت أنه سيورثه)، أي: ما زال يوصيه جبريل بالجار حتى كاد الجار أن يرث؛ لأن الجار لو جعل له حق في ملكك مثل القريب من النسب، فهذا كأنه له نصيب من الميراث.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً:(لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه في جداره) ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين؟! والله لألقين بها بين أكتافكم.
فهذا جدارك بنيته في ملكك، ومن مالك الخاص، ثم جاء جارك ليبني، فلم يبن جداراً بجهتك، واكتفى بالجهات الثلاث، وأراد أن يضع الخشب في جدارك، وذلك بوضعها بالعرض من جداره الداخلي إلى جدارك، فإذا كان جدارك يحتمل ذلك؛ فلا يحق لك شرعاً أن تمنعه، بل اتركه يضع خشبه على جدارك.
قال الحنابلة: ويجوز هذا ولو كان هذا الجار مسجداً إذا كان جداره قوياً، فيجوز حينئذٍ أن تضع خشب سقفك على جدار المسجد وهو بيت الله، أما إذا كان الوضع يضعف الجدار، أو يضر به، فـ (لا ضرر ولا ضرار)، فهذا الحديث يكاد يورث الجار، حيث جعل له حقاً في جدار الجار بوضع الخشب.