[حال المنافقين واليهود إزاء التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم]
لاحظ، بعد ذلك التمهيد وبيان حق ولي الأمر في الحكم بالعدل، وبيان واجب الأمة في السمع والطاعة، وبيان مرد النزاع إلى الله ورسوله، يعجب الله رسوله من قوم خرجوا عن هذا كله، وهنا مبدأ القضية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} [النساء:٦٠] (ألم تر) يا محمد رؤيا تعجب (إلى الذين) من هم؟ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء:٦٠]، يقولون: الزعم أخو الظن، إذا قوي الزعم وصل إلى الظن، وليس بيقين ولا بحقيقة، (يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) وهذا الخلق في بعضٍ من المنافقين، (وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ)، وهذا في بعض اليهود؛ لأن اليهود آمنوا بما أنزل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، والمنافقون آمنوا ظاهراً بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
فالمنافق يزعم أنه آمن بما أنزل إليك، واليهودي يزعم أنه آمن بما أنزل من التوراة والإنجيل.
مع هذا الزعم {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:٦٠]، يريدون أن يتحاكموا إلى من أمروا أن يكفروا به، ويبقى
السؤال
هل هم في هذا موافقون لمنهج الحكم السليم في الإسلام أم أنهم خرجوا عنه؟ لا شك أنهم خارجون عنه.
{وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:٦٠]، يبين سبحانه العلة، وأن من وراء ذلك الشيطان.
(أن يضلهم):، أي: يغويهم ويضلهم ضلالاً بعيداً عن الحق والهدى.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:٦١].
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ)، أي: هؤلاء الذين يزعمون الإيمان بالحاضر والسابق، وهم المنافقون واليهود، (تَعَالَوْا) في الحكم والتحاكم (إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ)، أي: تعالوا إلى ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
{وَإِلَى الرَّسُولِ} [النساء:٦١]، أي: تعالوا إلى الكتاب المنزل من عند الله ومن الرسول، لماذا؟ ليحكم بينكم.
(رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا)، فهل هؤلاء مؤمنون بما أنزل إليك، وهل هم صادقون في زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل إليك، كيف يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك؛ وهم إذا دعوا إليك يصدون عنك.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ)، وهو محمد صلى الله عليه وسلم (رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ)، (يَصُدُّونَ)، أي: يعرضون عنك، ويصدون صدوداً بعيداً، وفعلهم هذا وصدهم موجه ضد الرسول صلى الله عليه وسلم.
لم يقل: يصدون عما أنزل الله، وإنما قال: (عنك)، أي: يصدون عن شخصك يا محمد استثقالاً لما جئت ولعدم الرضا به.
(صُدُودًا)، يقول العلماء: يؤتى بالمصدر بعد الفعل؛ لتأكيد معنى الفعل، كما سيأتي {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥] وكما جاء في قوله سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:١٦٤]، تأكيداً للفعل الذي جاء قبل المصدر، فهم يصدون عنك صدوداً حقيقياً أكيداً مقصوداً.
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:٦٣].
(أُوْلَئِكَ)؛ أي: هؤلاء الموصوفون بالصد عنك، الزاعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، الله يعلم ما في قلوبهم، والقلوب هي محل الإيمان والتصديق؛ فهل في قلوبهم ما زعموه من الإيمان، أو في قلوبهم غير ذلك؟! ما أسباب الصدود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ المانع لديهم هو النفاق.
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) وهذا فيه خسارة، ولا يهم ذلك؛ لأنهم لا يستحقون التقدير وليسوا أهلاً له.
(وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ)، (في أنفسهم) يعني: في مسلكهم، وصدودهم عنك ونفاقهم بين المسلمين، أو في أنفسهم: بينك وبينهم لا تفضحهم (قولاً بليغاً).
فهذا السياق من الآيات الدالة على معنى ومفهوم قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:٦٤]، ومنه يتضح سبب هذا الخطاب الإلهي لنبينا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.