فلذلك لا تقدس أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها، وهكذا بنو إسرائيل حينما لم يأخذوا حق الضعيف من القوي آل أمرهم إلى التمزق، وآل أمرهم إلى السقوط والضياع، وقد فطن لذلك الصديق رضي الله تعالى عنه فأعلنها مبدئياًَ:(ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه) يعني: لا يعتصم أحد مني بقوته، ولا ييأس أحد مني لضعفه، الكل سواء في حكم العدالة.
وهذا هو ما ينبغي، فإذا ما ضيع هذا الجانب، وروعي الأشراف أو السادة أو الكبار أو ذوو الجاه، فهودنوا فيما يتعلق بحدود الله، وجيء إلى الضعفاء المساكين فنفذ عليهم حق الله، فهذه الأمة لا تستحق التقديس، وهي إلى الضياع أقرب، نسأل الله تعالى العافية والتوفيق.
وقد قال صلى الله عليه وسلم:(الناس سواسية كأسنان المشط)، وكما تقدم في كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى رضي الله عنه:(سوِّ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك)، وأمره أن يسوي بين الخصمين أمامه، وألا يميل إلى واحد منهما بلحظه أو بنظره، لئلا يطمع الشريف في حيفه، ولا ييأس الضعيف من عدله.
لأن الشريف إذا وجد القاضي يحابيه أو يصانعه أو يميل إليه، أو يلين له الحديث عند المناقشة؛ فإنه يطمع في المجاملة، والضعيف إذا وجد ذلك من القاضي في نبرات صوته، وفي كلماته وعباراته؛ فحينئذ يدخله كسر الخاطر، ويدخله الرعب والخوف من القاضي.
ولهذا ينبغي على القاضي أن يسوي بين الخصوم في خصومتهم، وبين مفاهمته معهم، حتى قال بعض القضاة: لو أغضب أحد الخصوم القاضي فرفع صوته عليه، وتكلم القاضي على هذا الذي أغضبه أو أثاره؛ فإنه ينبغي أن ينتهز فرصة من الطرف الثاني ولو كانت أقل من خطأ صاحبه، ويصيح عليه كما صاح على الأول، ليشعر بالمساواة.
وهكذا تبدأ العدالة من مجلس القاضي:(أجلسهم بين يديك، وأصغ إليهما، ولا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر) إلى آخر تلك الإرشادات التي جاءت في خطاب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه.
كيف تقدس أمة لم يؤخذ الحق من شريفها لضعيفها؟ لا يمكن، فإذا ما تساوى الجميع وأخذ الحق من القوي للضعيف، شعر الضعيف أنه قوي بالحق، وشعر القوي أنه ضعيف بمصادرته ومصادمته للحق، فيكون الحق هو حق النصر، وحق الاعتدال بين الطرفين كما قيل: الفضيلة وسط بين طرفين.
وبالله تعالى التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.