[اصطفاء الله عز وجل لبعض مخلوقاته]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: فقد قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:٢٩].
فأجمل منك لم تر قط عين وأفضل منك لم تلد النساء ولدت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء لقد اختص الله سيد الخلق محمداً صلى الله عليه وسلم بالمحامد الوفيرة والمآثر الأثيرة، وأثنى عليه في كتابه في آيات كثيرة، وأبقى معجزاته ما تعاقب الجديدان، وخلّد ذكره ما توالى النّيران، حفظه بعينه التي لا تنام، وحماه بركنه الذي لا يضام، رعاه وأكرمه وسواه فأحسن خلقه وعدّله، أيده ببراعة اللسان بعد أن ركّب فيه كل خلق حسن، أوحى إليه وناجاه وبكريم الخصال حباه، فتح به أعيناً عمياً وآذاناً صمّاً وقلوباً غلفاً.
قرن سبحانه وتعالى طاعته بطاعته، وأغلق طريق الجنة إلا باتباع أثره، ونفى الإيمان عمن خالفه، وحرم الجنة على من لم يطعه في هداه، فقال عز من قائل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥] صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
والحديث عن عظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وعلو شأنه قد يكون من جهته صلى الله عليه وسلم من باب تحصيل الحاصل؛ لأنه لا يستطيع أحد على الإطلاق أن يأتي بجديد أو يحصي الموجود أو يزيد، ولكنه تنبيه للعقول وإيقاظ للقلوب وتجديد للشعور بالمعقول والمنقول، وهذا جهد المقل وحصيلة المشغول.
فأقول وبالله التوفيق: إن رفعة شأن كل شيء وعظم قدره إما في اصطفاء الله إياه، وهو إما في ذاته، أو صفاته، أو أفعاله، وقد اختص الله من الناس ومن الملائكة أفراداً على بني أجناسهم، فاختص من الملائكة جبريل عليه السلام وجعله أميناً على وحيه {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:٢١]، وكذلك حملة العرش، واختص من الناس الرسل صلوات الله عليهم، واختص منهم أولي العزم، واصطفى من الجميع محمداً صلى الله عليه وسلم.
{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:٧٥]، ولما اعترض بنو إسرائيل على بعث طالوت عليهم ملكاً قالوا بمقياس البشر: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:٢٤٧]، كان
الجواب
{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٤٧].
فأصل اختياره اصطفاء الله إياه، ثم آتاه مقومات الملك ومؤهلات السلطة: (بسطة في العلم والجسم) وقدم في العلم؛ لأنه الأساس للتخطيط والسياسة، والجسم للتنفيذ والتطبيق.
وكذلك نبي الله موسى حين فر فزعاً من انقلاب العصا حيةً تسعى، ناداه ربه: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:١٤٤]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:٣٣]، وكذلك مريم: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:٤٢].
وهذا الاصطفاء البشري لإبلاغ رسالة الخالق إلى خلقه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:٣٢] وفي هذا الاصطفاء رفعة لشأن من اصطفاهم وعلو لقدرهم.
وقد شمل منهج هذا الاختصاص والاصطفاء بعض المخلوقات من الأمكنة والأزمنة، فقد اختص الله من عموم الأماكن مكة وبيت المقدس والمدينة المنورة؛ لما فيها من المقدسات والآيات البينات، وخص الأعمال فيها بمضاعفة الأجر، ومن الأزمان اختص من الشهور رمضان والأشهر الحرم، ومن الأيام يوم الجمعة، ومن الليالي ليلة الجمعة، ومن الساعات ساعة في يوم الجمعة، وبيّن تعالى موجب اختصاصها عن جنسها، وهذا الاختصاص قد أعلى شأنها وعظّم قدرها.
وإذا جئنا إلى موجب اصطفائه سبحانه لرسله ابتداءً من آدم عليه السلام إلى عيسى إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، نجد أن آدم كان أول الخلق من البشر، وأنه خلقه تعالى بيده ونفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، ويكفيه أولية الخلق، وخلقه سبحانه بيديه، وفي الأثر: ثلاث خلقهن الله بيده: خلق آدم بيده، وغرس جنة عدن بيده، وكتب الألواح لموسى بيده، وبقية المخلوقات من كن فيكون، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢].
ونوح عليه السلام خصه الله بالعمر الطويل، حتى لبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، يساير الليل والنهار، ويصابر قومه ويصبر عليهم، حتى أعلن يأسه منهم ودعا عليهم: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:٢٦ - ٢٧]، وقال تعالى في سورة القمر: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:١١ - ١٤]، وإبراهيم عليه السلام يتحدى قومه ويتلطف إلى أبيه: يا أبت! يا أبت! ويواجه الملك الطاغي النمرود ولا يبالي بهم جميعاً، ويحطم آلهتهم ويسخر منهم، ثم يواجهونه: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:٦٢ - ٦٣]، فأوقدوا نيرانهم فلم يبال بهم، وابتلاه الله بكلمات التكليف فأتمهن فجعله الله بإتمامها إماماً، وكان بإمامته أمة.
أما موسى عليه السلام فقد نشأ في رعاية الله من حين مولده، فحفظه من تذبيح فرعون لأبناء بني إسرائيل، ورعاه حين ألقته أمه في التابوت في اليم، ورعاه في رضاعته، فحرم عليه المراضع؛ كي يُرد إلى أمه وهم لا يشعرون، ورعاه في بيت عدوه حين صار رجلاً، ورعاه في خروجه إلى مدين، ورعاه عند شعيب، ورعاه عائداً بأهله إلى مصر، ثم هاهو يُبعث إلى فرعون وقومه فيبدأ التحدي بين الحق والباطل، ورعاه حين سلك في البحر طريقاً يبساً، ورعاه حين أهلك عدوه وهو ينظر إهلاكه بعينيه.
وعيسى عليه السلام: اصطفى الله مريم لتكون أماً له، واصطفاها حينما نذرت أمها ما في بطنها، واصطفاها حينما ألقوا أقلامهم أيهم يكفل مريم؟ واصطفاها: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:٣٧]، واصطفاها حينما {انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} [مريم:١٦ - ١٧]، واصطفاها في قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:١٧ - ١٨]، واصطفاها حينما قال لها: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:١٩] إلى أن جاءت به قومها تحمله، وجابهوها بتلك الفرية، فجعل الله مصدر تهمتها هو بعينه دلالة براءتها، حين قال لهم: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:٣٠] إلى قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم:٣٤]، وجاء الوحي فكشف ما التبس عليهم بقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٥٩].