ثانياً: أفعاله بعد البعثة
أما ما بعد الرسالة فكانت أفعاله الدالة على علو قدره وعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم أجلّ وأعظم؛ لأنها ضمن التكاليف والتشريعات: فمن ذلك مواجهته أهل مكة بما لا يألفونه وما فيه تسفيه أحلامهم وإبطال عبادة آلهتهم.
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:٩٤]، أي: اصدع ولا تخافن ولا تخافت، وأعلن ولا تسر، واملأ أجواء مكة بكلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله إنه أمر وتكليف.
فلما كان هذا يجلب سخط المشركين أمر أن يعرض عنهم: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:٩٤]، ولما كان أيضاً سيعرضه للسخرية، قدم الله عز وجل له الضمان: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:٩٥]، إلى أن بيّن وقع ذلك عليه من ضيق الصدر وحرج النفس فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فََسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر:٩٧ - ٩٨] أي: وداوم على ذلك {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩].
كذلك دعوته قومه إلى الصفا، وإعلانه الدعوة إلى الله فيها بعد أن أُمر بذلك في قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:٢١٤] وعزيمته ومضيه ورفضه التوقف أو الترك ولو ثامنوه بالشمس والقمر، وما لقي ومن معه نتيجة الصحيفة الظالمة وانحيازهم في الشعب، حتى أكلوا ورق الشجر.
وثمن ثم صبره على فقدان الحماية التي تمثلت في عمه، والرعاية التي تمثلت في زوجه.
ومن ذلك خروجه إلى الطائف بحثاً عن موطن رحب لدعوته، وما لقي من ثقيف، والموقف الذي كان من الملائكة وتعاطفهم معه لما سمعوا منه تلك المناجاة التي ضاقت بها الأرض وارتجفت لها السماء حين قال: (اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني: إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك) ذكره ابن هشام وغيره.
وفي هذا السياق يسوق ابن كثير في التاريخ: (أنه صلى الله عليه وسلم لما عرض نفسه على عبد ياليل فلم يجبه، خرج مهموماً ولم يفق إلا وهو بقرن الثعالب، فإذا بسحابة قد أظلته، قال: فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد! إن الله بعثني إليك بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال صلى الله عليه وسلم: لا، أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً) انتهى.
وعند صاحب سبل الهدى والرشاد: (إني لأني بهم) أي: أتأنى ولا أعجل، وقد سمعت في بعض الطرق أنه قال معتذراً عنهم: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)، وذكر صاحب سبل الهدى أيضاً أن ملك الجبال قال: (حقاً كما سماك ربك رءوف رحيم).
فأي قدر أعظم من أن يعتذر عمن آذاه، ويحسن إلى من أساء إليه، ويتأنى في عودتهم منتظراً من سيخرج من أصلابهم، فعلها تنفعهم إن لم تنفع آباءهم، إنه موقف يجلّ عن الوصف! وهنا يرد على الذهن حالاً موقف نبي الله نوح حين غاضبه قومه، فدعا عليهم بالاستئصال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:٢٦]، وأيس مما في أصلابهم: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:٢٧].
ونبي الله موسى عليه السلام بعد طول حوار مع فرعون وقومه دعا عليهم: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس:٨٨ - ٨٩].
فأي عظمة تجاوزت بنبي الله فطرة البشر، فبينما نوح وموسى يدعوان بهلاك قومهما؛ إذ بمحمد صلى الله عليه وسلم يتأنى بقومه رجاء إيمان من في أصلابهم، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة، فاستعجلوا بها، وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة).
وهنا قد يخطر ببال البعض أن رحلة الطائف لم تؤت ثمارها، والواقع أنها أتت بما هو أعظم من إيمان ثقيف؛ وذلك لما قام صلى الله عليه وسلم بوادي نخلة يصلي فاستمع إليه نفر من الجن: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:٢٩ - ٣٠] إلى قولهم: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا} [الأحقاف:٣١]، فكان في ذلك إبلاغ الدعوة إلى الجن الذين يمثلون أحد الثقلين.
ثم جاء إلى مكة عند عودته من الطائف وكان قد طلب من ثقيف أن تكتم صنيعها عنه فلم تفعل، وبلغ خبره أهل مكة، فمنعوه الدخول إليها حتى طلب من يجيره في دخولها، ودخل في جوار المطعم بن عدي وهو على دين قومه، وهنا ينشأ
السؤال
نبي مرسل يرسل الله له ملك الجبال قوة بين يديه، والآن يرضى لنفسه أن يدخل في جوار رجل مشرك، وأن يكون للمشرك يد عنده، وفي مكة كبار الشجعان من أصحابه؛ كـ حمزة وعمر وأبي بكر وغيرهم؟ ولكن لا غرو في ذلك إنها الحكمة وبعد النظر وحسن السياسة والحنكة التي تمتع بها صلى الله عليه وسلم والتي كشفها الحوار الذي دار بين أبي سفيان والمطعم بن عدي حين وجد المطعم يطوف بالبيت، وأبناؤه سبعة في سلاحهم حول الكعبة، فدنا منه وسأله: أمجير أنت أم تابع؟ قال: بل مجير، فقال له: لقد أجرنا من أجرت، والفرق بينهما في ميزان أبي سفيان العسكري ومنهجه العدائي أنه إن كان مجيراً فالجوار مكرمة تحافظ عليها العرب وتفخر بها فلا بأس إذاً، أما إذا كان تابعاً -أي: أسلم وتبع محمداً- فيكون هذا تحدياً لأهل مكة كلهم، ولن يسكتوا على ذلك التحدي، فتكون حربٌ أهلية.
وبهذا يتبين لنا أنه صلى الله عليه وسلم لما لم يدخل في جوار أحد من أتباعه إنما أراد الحفاظ عليهم من حرب من لا طاقة لهم بهم آنذاك، ثم جاء حدث الإسراء، ولكأنه بمثابة التغطية والتعويض عما لحقه من ثقيف وأهل مكة، خاصةً عند سدرة المنتهى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:١٦ - ١٨].
ثم جاءت الهجرة، والحديث عن الهجرة وموجباتها والإعداد لها، والنتائج التي أعقبتها يستغرق الوقت ويستفرغ الجهد، وسبق أن قدمت فيه محاضرة بعنوان: معالم على طريق الهجرة، خاصةً فيما يتعلق بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار والمؤاخاة بين المختلفين من الأنصار فيما بينهم.
ثم كانت السرايا والغزوات، وفي جميع ذلك تشكيلات لمواقف تدل على عظيم قدره وعلو شأنه، نختار منها موقفاً واحداً وهو آخر مواقفه في غزواته وهي فتح مكة، حينما وقف بباب الكعبة وأهل مكة عنده، وقال مقالة بعيدة الدلالة: (ماذا ترون أني فاعل بكم؟).
عليهم أن يتذكروا حالاً أفعالهم وإساءتهم، فإذا بصحيفة مليئة بالإساءة، فما عسى أن يقولوا وهم الآن في قبضته وتحت سلطته، فما كان منهم إلا أن يلتمسوا الرحمة وصلة الرحم فقالوا: (أخ كريم وابن أخ كريم).
وهناك عندما انخفضت رءوسهم وغضوا أصواتهم زال عنهم كبرياؤهم، وتخلى عنهم طغيانهم، فأرسلها في رفق وعاطفة وعزة وإباء: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، طلقاء بعد ماذا: بعد تكذيبهم وإيذائهم، وتعذيبهم أصحابه؟ أم بعد إلقاء سلى الجزور عليه وهو ساجد في المكان الذي يأمن فيه كل خائف؟! أما بعد مقاطعته ومن معه وحصرهم في الشعب حتى أكلوا ورق الشجر؟! أم بعدما منعوه دخول مكة إلا في جوار رجل مشرك؟! أم بعد تآمرهم عليه في دار الندوة ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه؟! أم بعد رصد بيته بعشرة شباب من القبائل بسيوفهم مصلته يرتقبون خروجه ليضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فيذهب دمه هدراً؟! أم بعدما اضطروه إلى الخروج من مكة مهاجراً، وألجئوه إلى الغار؟! أم بعدما جعلوا مائة من الإبل جائزة لمن يأتي به حياً أو ميتاً؟! أم بعد مجيئهم بدراً بطراً ورياء بعد أن سلمت لهم تجارتهم؟! أم بعد تحالفهم مع كعب بن الأشرف وتحزيب غطفان وغيرهم في موقعة الأحزاب ليستأصلوه ومن معه في المدينة، وما صدهم إلا الخندق؟! أم بعد أن صدوهم عن البيت في عمرة الحديبية، والهدي معكوفاً أن يبلغ محله؟! نعم؛ أنتم الطلقاء، فلا مجازاة ولا عتب عليكم، إنه العفو والصفح بعد القدرة! فهل بعد هذا الشرف علو قدر في نطاق البشر؟! لا وألف لا، فإنا نجد مصداق ذلك ما يشاهد في أعقاب الحروب وما يفعل المنتصر من سلب ونهب وتقتيل واعتقالات وتدمير على حد قول بلقيس: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِ