[معاونة الجار بالحسنى وترك استغلال حاجته]
ومن حقوق الجار أنه إذا استعانك فأعنه، فإذا طلب منك المعونة في أمر في بيته أو غيره فساعده عليه، وإذا استقرضك فأقرضته.
فإذا احتاج الجار للمال، وقال لك: يا فلان! أقرضني ألف ريال إلى شهر، أو إلى شهرين، فلا يجوز أن تبيعه بيع العينة، فتبيعه مثلاً طاقة قماش بألف، ثم تشتريها منه بثمانمائة نقداً، فيذهب بالثمانمائة وهو مدين لك بألف نسيئة مكتوبة في الدفتر، وكان يجب عليك أن تقرضه.
والمقرض متعامل مع الله، كما قال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:٢٤٥]، والقرض قربة مثل الصدقة، لاسيما القرض للمحتاج، وقد روي في الحديث: (الصدقة بالدرهم صدقة، والقرض بالدرهم صدقتان، أو له أجران: أجر القرض وأجر الإنظار)، ولهذا لا تجد من يقرض قرضاً حسناً ابتغاء وجه الله إلا من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ولا يتعامل بالربا إلا من كان في إيمانه شك.
ومطالب العقلاء في هذه الحياة جلب نفع أو دفع ضر، وقانون الحياة مبني على المعاوضة، فتقول للبائع: خذ الثمن وأعطني السلعة، ويقول العامل: أنا أعمل عندك وآخذ الأجرة، وهكذا، فكل إنسان يتعامل مع غيره في الحياة على مبدأ المعاوضة، وبقدر ما تنفعه ينفعك.
وهذا القانون قد يشمل حتى الحيوان، فيتعامل معك الحيوان على قانون المعاوضة، فمثلاً السفر على الإبل: فإذا كان السفر طويلاً فإنك من قبل السفر تعلف الراحلة زمناً طويلاً حتى تقوى على الرحلة، وفي أثناء سفرك تراعيها في أكلها، وبقدر ما تعطيها من علف تعطيك من المسير، وهكذا الشاة والبقرة، فبقدر ما تعطيهما من علف يعطيانك من الحليب، وإذا قصرت في علفهما قصرا في الحليب، فالأمر معاوضة! وقد ورد أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! قد ندّ عليّ بعيري -أي: شرد وهاج، والنبي عليه الصلاة والسلام أرسل للبشر لا للإبل، لكنه لم يتخل عنه- فقال لأصحابه: قوموا بنا إلى بعيره، فذهبوا، فدخل صلى الله عليه وسلم البستان والبعير هائج، فقال الصديق: يا رسول الله! على رسلك! فالبعير هائج، فقال له صلى الله عليه وسلم: على رسلك أنت يا أبا بكر، ودخل الحائط وحده إلى البعير الهائج، فلما أقبل عليه انقاد له البعير، ومد إليه عنقه، ووضعه على منكب رسول الله، وأصغى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رفع البعير رأسه، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى صاحب البعير وقال: يا صاحب البعير! بعيرك يشتكي منك كثرة العمل، وقلّة العلف!).
فاشتكى من عدم المعاوضة العادلة، فكثرة العمل تقتضي كثرة العلف، لكن يكلفه العمل الكثير، ويعطيه العلف القليل! فهذا من حقه أن يهيج، فقانون المعاوضة يسري حتى على الحيوان.
فالمرابي يريد أن يقرض على قانون المعاوضة، ولا يقرض قرضاً حسناً، بل يقول: أنا أريد عوضاً عن هذا القرض؛ لأنه يمشي على قانون المعاوضة المادية، لكن المسلف إذا أقرض بدون عوض فإنه يتعامل مع الله، وقانون المعاوضة موجود في التعامل مع الله بأكثر مما في الدنيا، ففي الدنيا تدفع ريالاً وتأخذ دفتراً، وتدفع ريالاً وتأخذ خمسة أقراص من الخبر، وتدفع عشرة ريالات وتأخذ ثوباً، وكل ذلك يكون عاجلاً.
أما المتصدق فإنه يدفع الدرهم أو يدفع الدينار أو يدفع الألف، وهو يطمع فيما هو أكثر من ذلك، (الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف)، ولكن متى ذلك؟ يوم القيامة.
إذاً: المقرض يؤمن بيوم القيامة، ويوقن أنه يعامل من سيجزيه ويعوضه، ولكن ذلك يكون مؤجلاً إلى {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:٨٨]، فالمعاوضة موجودة، وعندما يتعامل المقرض يتعامل مع الله، كما قال الله سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:٢٤٥].
والمرابي لو كان يؤمن بالله وباليوم الآخر مثل إيمان المقرض أو المتصدق لما قال: أنا لا أدفع لك ألفاً حتى تزيدني عليه مائتين، فهو يريد معاوضة عاجلة، بخلاف المؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يدفع الألف ويخفيها عن الناس، وفي الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: وذكر منهم صلى الله عليه وسلم: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله)، وفي رواية: (تصدق بيمينه)، والروايتان موجودتان، ولكن الأصح في سياق هذا الحديث بشماله؛ لأنه يريد أن يخفي تصرفه، والناس قد يراقبون اليمين؛ لأنها المعتادة في الحركة، وهو لا يريد أن يهتدوا لحركته، فيغافلهم ويتصدق بالشمال حتى يمعن في إخفائها، وهي لا تخفى على الله.
وهذا كما يحكي المؤرخون أنه في بعض الغزوات حاصر المسلمون مدينة، وصعب عليهم فتحها، وفي ليلة من الليالي علم أحد الجنود بمدخل لهذه المدينة، وفي الفجر دخل من هذا المنفذ وفتح الباب وكبّر، ودخل المسلمون وفتحوا المدينة، ولما تحقق النصر، واستتب الأمر، أراد الأمير أن يعرف من هذا الجندي الذي فتح الله على يده؟ فنادى في الجنود: من فتح الحصن فليأتني؟ من فتح الحصن فليخبرني؟ ولا أحد جاءه أو أخبره.
وكان الجندي سامعاً مطيعاً، فألزمه بالإتيان بالسمع والطاعة للأمير، وفي منتصف الليل عندما نام الناس جاء الجندي متلثماً، إلى خيمة الأمير القائد، فسأله الحارس: من أنت؟ قال: أنا طِلبة الأمير، ولكن أخبره أني لن أخبره عن نفسي إلا بشروط، قال: ما هي؟ قال: ألا يسألني عن اسمي، ولا اسم أبي، وألا يُقدم لي مكافئة، وألا يطلبني بعد ذلك، فإن قبل هذه الشروط فإني أدخل عليه ثم أنصرف.
فدخل الحارس على الأمير فوافق على شروطه، فدخل، فسلم على أميره وقال له: أيها القائد! لماذا أكثرت في طلبي؟ وماذا تريد مني؟ إن الذي خرجنا نجاهد في سبيله يعرف اسمي ونسبي وجزائي عنده، والسلام عليكم وانصرف، فالأمير ألزمه بالحضور بحق السمع والطاعة، لكن هذا الشخص الذي فتح الله على يديه كان مخلصاً، ولا يريد أن يعرف اسمه، لكن الأمر كما قال: إن الذي أخرجنا نجاهد في سبيله يعرف اسمي ونسبي، وهو الذي سيجازيني على عملي.