يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث في هذا الموطن ليبين أن العدالة في القضاء بها تقدّس الأمة، فإذا ما ضاعت العدالة في الأمة لم تكن أهلاً لأن تقدس.
وكيف تقدّس؟ أي: تنزه وتطهر ويكون لها قيمة عند الله وعند الناس.
فالتقديس هو: التنزيه، والرسول صلى الله عليه وسلم بسؤال التعجب هذا:(كيف تقدس أمة؟!) كأنه يقول: لا يمكن أن تقدس أمة لا يؤخذ من شريفها لوضيعها؛ لأنه إذا لم يؤخذ من الشريف للوضيع حقه فحينئذ تسود الفوضى، ويختل النظام، وتصبح تلك الأمة في عداد الأمم التي لا قيمة لها؛ لأنها لم تنصف بين أفرادها، ولم تحسن أن تقيم العدالة بين الجميع.
وكما قيل سابقاً: العدل أساس الملك، فالعدالة لا بد أن تكون عامة شاملة، وقد سمعنا في هذا الموضوع من بعض المعاني، وقرأنا كذلك فيما يتعلق بمساواة الشريف بالوضيع في الخصومة، وفي أخذ الحق.
وقد أحسن الصديق رضي الله تعالى عنه حين أعلنها مدوية في خطابه الذي يسمى اليوم بخطاب العرش، أي: الخطاب الذي يرسم فيه رئيس الدولة خطته في الحكم، ومنهجه في السياسة، فمما قاله الصديق رضي الله تعالى عنه:(ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه) فالحق أعطى الضعيف قوة، والحق حط من قوة القوي حتى يتعادلا ويتساويا في الحقوق وفي الحكم.
ومما سمعنا ولم نقرأه: أن جبلة بن الأيهم كان يطوف بمكة، وكان عمر رضي الله تعالى عنه آنذاك موجوداً في وقت الطواف، فوطئ رجل على إزار جبلة بن الأيهم، فأساءه، فالتفت إليه فصفعه على وجهه، فاستعدى عليه عمر وقال: القصاص يا أمير المؤمنين! فقال عمر لـ جبلة: القصاص يا جبلة!، قال: كيف تقتص مني لأعرابي يبول على فخذيه! -يعني: استخف به واستضعفه واستهان بأمره، ورأى في نفسه أنه لا يقتص من مثله لأعرابي- فقال له عمر: شرع الله القصاص، فلا بد من القصاص، فقال: إن كان ولا بد فأمهلني حتى أنهي عمرتي، فأمهله، فلما أنهى العمرة شرد إلى الشام، فأوى إلى الغساسنة هناك.
هنا استعظم في نفسه أن يقتص منه لمن هو دونه، فهو من سادة العرب، وهذا الذي وطئ على إزاره فرد من الأفراد وشخص دونه، فتعاظم في نفسه وامتنع أن يعطي من نفسه القصاص لصاحب الحق؛ لأنه أضعف منه.