فإن قيل: كيف اشكل هذا على هؤلاء القوم؟ قيل له: ليس يعرف هذا بكمال العقل وان كان واضحا، وانما يعرف بكثرة السماع وحسن الاصغاء والتأمل، وجودة التحصيل وصحة النقل.
ألا ترى ان في هؤلاء من يقول: ان في القرآن زيادة، وفيهم من يقول:
فيه نقصان، وفيهم من يقول: للطهارة والصلاة والصيام وسائر الشريعة باطن يخالف ما عليه الفقهاء والعامة، والى ما يذهب اهل التناسخ وقوم من الصوفية. وكل من جالس العلماء وكثر سماعه وجاد تحصيله، يعلم علما يقينا ان هذا خلاف دين النبي صلّى الله عليه وسلم؛ وقد عرف اصحابه من سيرته جواز الاختيار في الائمة والامراء، وعملوا بذلك في حياته صلّى الله عليه وسلم. ألا ترى انه لما انفذ عسكرا لغزو الروم قال لهم: اميركم زيد بن حارثة، فإن هلك فجعفر بن ابي طالب، فإن هلك فعبد الله بن رواحة؛ فهلك هؤلاء الامراء الثلاثة فاستعمل الجيش بعدهم خالد بن الوليد المخزومي اميرا عليهم، فدبرهم وساسهم ولقى العدو بهم، فما انكر النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك بل صوبهم، وسمي خالد بن الوليد سيف الله. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم انفذ عما لأبي موسى الاشعري اميرا على جماعة فهلك، فاستعملوا بعده ابا موسى، فما انكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك بل صوبهم؛ بل انهم انما فعلوا هذا لأنهم قد عرفوه من سيرته.
وقد ولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابو العلاء بن الحضرمي «١» البحرين، وانفذه في
(١) أرسل الرسول (ص) العلاء بن الحضرمي الى المنذر الساوي بالبحر بالكتاب التالي: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله الى المنذر ساوي. سلام عليك فاني احمد الله إليك الذي لا إله الا هو، واشهد ان لا اله الا وان محمدا عبده ورسوله. أما بعد، فإني اذكرك الله عز وجل فان من ينصح فانما ينصح لنفسه وان من يطع رسلي ويتبع امرهم فقد أطاعني ومن نصح لهم فقد نصح لي، وان رسلي قد اثنوا عليك خيرا، واني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما اسلموا عليه، وعفوت عن اهل الذنوب فاقبل منهم، وانك مهما تصلح يغفر لك عن عملك، ومن اقام على يهوديته او مجوسيته فعليه الجزية» . السيرة الحلبية ٣: ٢٥٢.