للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وباب آخر [دعوة الرسول لنصارى نجران للمباهلة وخضوعهم له]

من أعلامه صلّى الله عليه وسلم، وهو أن نصارى نجران وغيرهم من النصارى دعاهم إلى الإسلام فقالوا: أسلمنا قبلك فكذبهم في قولهم بأنهم قالوا: لله ولد، وعظّموا الصليب، وأكلوا الخنزير. فقال شيخ منهم كبير فيهم: من أبو عيسى؟

فسكت النبي صلّى الله عليه وسلم وكان لا يعجل حتى يأمره الله، فأنزل الله عز وجل «ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ» إلى قوله: «إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «١» فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليهم ذلك، ثم دعاهم إلى المباهلة وأخذ بيد الحسن والحسين وعليّ وفاطمة رضوان الله عليهم. فقال واحد منهم لمن معه من النصارى: أنصف الرجل، وتشاوروا وقال قائل منهم: إنه لصادق ولئن باهلتموه ليحرقن.

فقالوا له: لا نبارزك، وكرهوا الإسلام، وأقروا بالجزية، وسألوه أن يقبلها منهم فأجابهم إلى ذلك، وقال صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لو باهلونا «٢» لأضرم الله عليهم الوادي نارا، فرضوا بالجزية وانصرفوا بالخزي.

فانظر إلى هذا الاحتجاج في أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، احتجاج غير متكلف ولا متعمل ولا مخالط للمتكلمين ولا هو في بلد الجدل صنعتهم. فأشار لك بهذه الإشارة التي هي من جوامع العلم ومفاتيح الحكمة كما قال صلّى الله عليه وسلم: «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي اختصارا» فإن خلق آدم من أكبر الحجج على النصارى، وخلقه أبدع، لأنه خلق من غير ذكر


(١) آل عمران ٥٩- ٦٢
(٢) انظر لتفصيل هذه المباهلة سيرة ابن هشام ٢: ٥٧٣