وباب آخر [علم الرسول صلى الله عليه وسلم حين تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن أنهم لن يستطيعوا]
وهو أنه صلّى الله عليه وسلم قد علم وتيقن حين تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بمثل عشر سور أو بمثل سورة أنهم لا يأتون بذلك، ولو لم يتيقن ذلك لما تحداهم ولا قال، لأن العاقل لا يقدم على مثل هذا وهو لا يأمن أن يأتوا بمثله فيفتضح وتبطل حجته ويستظهر عليه خصمه ويظهر كذبه وينصرف عنه أصحابه وتبطل رئاسته، سيما والعرب أمم كثيرة، والفصاحة مثبوتة فيهم غالبة على رجالهم ونسائهم وعبيدهم وإمائهم، وهو لا يعرفهم بأعيانهم ولا يحيط علما بأشخاصهم وبشعرائهم وخطبائهم وبلغائهم وفصحائهم ودعاتهم، فكان لا يأمن أن يتبتّل له قوم منهم غضبا لأديانهم، وعصبية لآبائهم، وأنفة لأنفسهم، فيأتون بمثل ذلك في الفصاحة والبلاغة، أو بما يقارب ذلك، فيهدمون كل ما بنى، وهو العاقل الحليم الذي لا يدفع عدوه عقله فلم يكن ليخبر أنهم لا يأتون بشيء من ذلك إلا وهو على يقين أنهم لا يأتون بذلك ولا بما يقاربه، فما في الدنيا عاقل تأمل أمره صلّى الله عليه وسلم إلا وأثمر له الفكر والعلم بذلك.
فإن قيل: قد يقول العاقل في صنعة يدعيها، أو شجاعة، أو في شدة وقوة وأشباه ذلك: إن أحدا لا يساويني في ذلك ولا يدانيني فيه، وإن كان لا يعلم أن الأمر كما ادّعى ولا يخرجه ذلك من أن يكون عاقلا ... قيل له: لا يسأل عنه وعن أمثاله من تأمل ما قلنا، فإنا لم نقل إنه ليس في الدنيا عاقل ادعى أنه لا يساوى في منزله إلا وهو على يقين من أن الأمر/ كذلك، وإنما قلنا: إن هذا الرجل صلّى الله عليه وسلم قد ادعى أعظم الأمور وأجلها، وهو أن الله اصطفاه على العالمين، وجعله وحده منذ أرسله حجة على كل من أدركه