وكان أبو جعفر المنصور وجد مرضا، فذكر له طبيب بجند يسابور فأحضره، فمكث في داره زمانا وأقام فيها لعلاجه، فلما طعم طلب من الخدم خمرا، فقالوا له: ما في هذا القصر خمر ولا شيء من الأنبذة ولا لك إلى هذا، سبيل فقال: أنا رجل ذمىّ وأستحله وبه أحفظ صحتي، وما شربت ماء مذ كذا وكذا خوفا من شرّه، وأنا أخشى إن عدمت الخمر أن أمرض وأموت، فقيل له: ما شاء فليصبك مالك إلى هذا سبيل، فشرب الماء على كره فلما أصبح أخذ قارورته فإذا هي كما كانت وهو يشرب الخمر، فاشتد تعجبه وذكر ذلك لإخوانه.
وعندهم أن الحرارة الغريزية تقوى بشرب الخمر وتضعف بشرب الماء، حتى قال قائل منهم: والله ما حرم نبيّ العرب الخمر والأشربة على أتباعه إلا لفضل عقله، فانّ الأنبذة المسكرة مضرة بالعقل جدّا محيلة له وكذا الغناء، وما شيء أفضل من العقل، فكل ما أضر به وأثر فيه فخبيث رديء، وقد وجد في العسل وغيره ما ينوب عن الخمر وسائر الأنبذة في إسخان المزاج وتعديل الطبع مع سلامة العقل، فجناية الأشربة المسكرة في تغيير العقل أعظم الجنايات وأكبر الأمراض، وليس الطبيب من داوى مرضا بدواء أعقب مرضا هو أعظم منه.
قال فأما ما يحدث لشارب السكر وسامع الغناء من الطرب وسرور النفس والنزاقة والخفة فما هو إلا لنقصان عقله ولا فضلة لها ولا خير منها، فنبيّ العرب أطب الأطباء وأفطن العقلاء، هذا قول من كان له عدوا ومكذبا.
وقد ذكر الناس/ فضل عقول أكلة التمر ولحم الجزور على أكلة لحم الخنزير بما هو مذكور في غير هذا الموضع، والناس يعاينون حياة الحيوان والنبات بوجود الماء وتلفهم مع عدمه، ولا يغنيهم عنه خمر ولا غيره، بل تزيد الخمر