غيره، ولم يكن إلا كجميع أشباهه من الأنبياء والعظماء، أولئك الذين أشبّههم بالمصابيح الهادية فى ظلمات الدهور.
وقد رأيناه طول حياته راسخ المبدأ، صادق العزم بعيدا، كريما برّا، رؤوفا، تقيا، فاضلا، حرا، رجلا، شديد الجد، مخلصا، وهو مع ذلك سهل الجانب، ليّن العريكة، جم البشر والطلاقة، حميد العشرة، حلو الإيناس، بل ربما مازح وداعب، وكان- على العموم- تضىء وجهه ابتسامة مشرقة من فؤاد صادق؛ لأن من الناس من تكون ابتسامته كاذبة ككذب أعماله وأقواله» .
إلى أن قال:«كان عادلا، صادق النية، كان ذكى اللب، شهم الفؤاد، لوذعيّا، كأنما بين جنبيه مصابيح كل ليل بهيم، ممتلئا نورا، رجلا عظيما بفطرته، لم تثقفه مدرسة، ولا هذبه معلم، وهو غنى عن ذلك.
ويزعم المتعصبون من النصارى والملحدين أن محمدا لم يكن يريد بقيامه إلا الشهرة الشخصية، ومفاخر الجاه والسلطان.
كلا- وايم الله- لقد كان فى فؤاد ذلك الرجل ابن القفار والفلوات، المتوقد المقلتين، العظيم النفس، المملوء رحمة وخيرا وحكمة، وحجى- أفكار غير الطمع الدنيوى، ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه، وكيف لا، وتلك نفس صامدة كبيرة، ورجل من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين؛ فبينما ترى آخرين يرضون الاصطلاحات الكاذبة، ويسيرون طبق الاعتبارات الباطلة إذ ترى محمدا لم يرض أن يتلفّع بمألوف الأكاذيب، ويتوشح بمبتدع الأباطيل.
لقد كان منفردا بنفسه العظيمة، وبحقائق الأمور والكائنات، لقد كان سرّ الوجود يسطع لعينيه- كما قلت- بأهواله، ومخاوفه، وروانقه، ومباهره، ولم يكن هناك من الأباطيل ما يحجب ذلك عنه، فكان لسان حال ذلك السر الهائل يناجيه: ها أنا ذا، فمثل هذا الإخلاص لا يخلو من معنى إلهى مقدس، فإذا تكلم هذا الرجل فكل الآذان برغمها صاغية، وكل القلوب واعية، وكل كلام ما عدا ذلك هباء، وكل قول جفاء» .