أنهما جناحان كجناح الطائر كما يسبق للوهم. أي لأن الصورة الآدمية أشرف الصور، أي ولا يضر في ذلك وصفهما بأنهما من ياقوت ولا كونهما مضمخين بالدم، وصار المسلمون يحثون في وجوههم التراب ويقولون لهم يا فرارون، فررتم في سبيل الله، فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بل هم الكرارون. وفي لفظ: إنهم قالوا: يا رسول الله نحن الفارون، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنتم العكارون: أي الكرارون، وهو دليل على أنه كان بينهم محاجزة وترك للقتال.
وعن بعض الصحابة: لما قتل ابن رواحة رضي الله عنه انهزم المسلمون رضي الله عنهم أسوأ هزيمة ثم تراجعوا، ولقد لقوا من أهل المدينة لما رجعوا شرا، حتى إن الرجل يجيء إلى أهل بيته يدق عليهم بابه، فيأبون يفتحون له ويقولون له: هلا تقدمت مع أصحابك؟ فقتلت، حتى إن نفرا من الصحابة رضي الله عنهم جلسوا في بيوتهم استحياء، كلما خرج واحد منهم صاحوا به، وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم رجلا رجلا. ثم يقول: أنتم الكرارون في سبيل الله، ويعنون بالفرار انحيازهم مع خالد رضي الله عنه حين انحاز العدو عنهم؛ وإنما انحاز خالد رضي الله عنه لترتيبه العسكر، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم خالدا رضي الله عنه على ذلك وأثنى عليه. وقتل رجل من المسلمين رجلا من الروم، فأراد أخذ سلبه فمنعه خالد رضي الله عنه، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال لخالد: ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال: استكثرته عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادفعه له.
وكان عوف بن مالك رضي الله عنه كلم خالدا في دفع ذلك لذلك الرجل قبل أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مر خالد بعوف بن مالك أطلق لسانه في خالد رضي الله عنه وقال له: أما ذكرت لك ذلك ونحوه؟، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال لخالد: لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي؟.
وفيه أن القاتل استحق السلب فكيف منعه. وأجيب بأنه يجوز أن يكون دفعه له بعد، وإنما أخر دفعه تعزيزا لعوف رضي الله عنه حين أطلق لسانه في خالد، وانتهك حرمته، وتطييبا لقلب خالد رضي الله عنه للمصلحة في إكرام الأمراء، وهذا السياق لا يدل على أن الجيش كله رضي الله عنهم قيل لهم الفرارون وإنما كان لطائفة من الجيش فروا إلى المدينة لما رأوا من كثرة العدو فليتأمل.
وعد هذه غزوة تبعت فيه الأصل، والحق أنها ليست من الغزوات بل من السرايا الآتي ذكرها لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن فيها، والله أعلم.