وعن وهب بن منبه: قرأت في أحد وسبعين كتابا أنه صلى الله عليه وسلم أرجح الناس وأفضلهم رأيا. وفي رواية: وجدت في جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انتهائها من العقل في جنب عقله صلى الله عليه وسلم إلا كحبة بين رمال الدنيا. ومما يتفرغ على العقل اقتناء الفضائل، واجتناب الرذائل، وإصابة الرأي، وجودة الفطنة وحسن السياسة والتدبير، وقد بلغ من ذلك صلى الله عليه وسلم الغاية التي لم يبلغها بشر سواه.
ومما يكاد يقضي منه العجب حسن تدبيره صلى الله عليه وسلم للعرب الذين هم كالوحوش الشاردة، كيف ساسهم، واحتمل جفاهم، صبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا عليه، واختاروه على أنفسهم، وقاتلوا دونه أهلهم وآباءهم وأبناءهم وهاجروا في رضاه أوطانهم انتهى، والله أعلم.
[باب يذكر فيه مدة مرضه، وما وقع فيه، ووفاته صلى الله عليه وسلم التي هي مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين]
ذكر أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع من جوف الليل فاستغفر لهم. فعن أبي مويهية مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له في جوف الليل، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي، قال: فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم، قال:
السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، لو تعلمون ما نجاكم الله منه أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها والأخيرة شر من الأولى، قال: ثم أقبل عليّ، وقال: يا أبا مويهية هل علمت أني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي، فاخترت لقاء ربي والجنة» أي وفي رواية: «أن أبا مويهية قال له: بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الأرض والخلد فيها، ثم الجنة. قال لا، والله يا أبا مويهية لقد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فلما أصبح ابتدىء بوجعه من يومه ذلك ابتدأه الصداع» أي وفي رواية «ذهب بعد ذلك إلى قتلى أحد فصلى عليهم، فرجع معصوب الرأس، فكان ذلك بدء الوجع الذي مات فيه» وفي رواية: «رجع من جنازة بالبقيع» .
قالت عائشة رضي الله عنها:«لما رجع من البقيع وجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول وارأساه، فقال صلى الله عليه وسلم: بل أنا وارأساه قال: لو كان ذلك وأنا حيّ فأستغفر لك وأدعو لك وأكفنك وأدفنك» وفي لفظ: «وما يضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك، فقلت: واثكلاه. والله: إنك لتحب موتي، فلو كان ذلك لظللت يومك معرسا ببعض أزواجك، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم،