الناس؟ فلم أر الناس يلوون على شيء، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عباس اصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة» يعني الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان.
وفي لفظ:«يا عباس اصرخ بالمهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة، وبالأنصار الذين آووا ونصروا» أي وإنما خص صلى الله عليه وسلم العباس بذلك، لأنه كان عظيم الصوت، كان صوته يسمع من ثمانية أميال، كان يقف على سلع وينادي غلمانه آخر الليل وهم بالغابة فيسمعهم، وبين سلع والغابة ثمانية أميال.
وغارت الخيل يوما على المدينة، فنادى: واصباحاه فلم تسمعه حامل إلا وضعت من عظم صوته.
وفي لفظ آخر: نادى يا أصحاب السمرة يوم الحديبية، يا أصحاب سورة البقرة، أي وخص سورة البقرة بالذكر، لأنها أول سورة نزلت في المدينة، لأن فيها كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: الآية ٢٤٩] وفيها:
وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: الآية ٤٠] وفيها: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: الآية ٢٠٧] . وفي لفظ: نادى: «يا أنصار الله وأنصار رسوله، يا بني الخزرج. خصهم بالذكر بعد التعميم لأنهم كانوا صبرا في الحرب. فأجابوا لبيك لبيك. وفي لفظ: يا لبيك يا لبيك» .
أي وفي البخاري:«لما أدبروا عنه صلى الله عليه وسلم حتى بقي وحده، فنادى يومئذ نداءين التفت عن يمينه، فقال: يا معشر الأنصار، قالوا: لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك، ثم التفت عن يساره فقال: يا معشر الأنصار، قالوا: لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك» .
ويجوز أن يكون هذا بعد نداء العباس وقربهم منه صلى الله عليه وسلم، وصار الرجل يلوي بعيره فلا يقدر على ذلك، أي لكثرة الأعراب المنهزمين، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، ويؤمّ الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال بعضهم: فما شبهت عطفة الأنصار على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عطفة الإبل. وفي لفظ: عطفة البقر على أولادها فلرماحهم أخوف عندي على رسول الله صلى الله عليه وسلم من رماح الكفار، حتى إذا انتهى إليه من الناس مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القوم وهم يجتلدون، أي وكان شعارهم كيوم فتح مكة، فقال صلى الله عليه وسلم:«الآن حمي الوطيس» ، وهو حجارة توقد العرب تحتها النار يشوون عليها اللحم. والوطيس في الأصل: التنور، وهذه من الكلمات التي لم تسمع إلا منه صلى الله عليه وسلم، وهي مثل يضرب لشدة الحرب: أي وصار يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، وهذا السياق يدل على أن المائة انتهت إليه صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة، وهو يؤيد القول بأن الذين ثبتوا معه صلى الله عليه وسلم لم يبلغوا المائة.