أتاني تلك، فلقد أدمت بالدال المهملة وتشديد الميم بالركب: أي حبسته بتأخرها عنه لشدة عنائها وتعبها لضعفها وهزالها، حتى شق ذلك عليهم، حتى قدمنا مكة نلتمس:
أي نطلب الرضعاء جمع رضيع، وأدمّ مأخوذ من الماء الدائم، يقال أدم بالركب: إذا أبطأ حتى حبسهم، ويروى بالمعجمة: أي جاء بما يذم عليه وهو هنا الإبطاء.
أقول: لأنه كان من شيم العرب وأخلاقهم إذا ولد لهم ولد يلتمسون له مرضعة في غير قبيلتهم، ليكون أنجب للولد، وأفصح له. وقيل لأنهم كانوا يرون أنه عار على المرأة أن ترضع ولدها انتهى: أي تستقل برضاعه.
ويدل للأول ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه «أنا أعربكم» أي أفصحكم عربية «أنا قرشي، واسترضعت في بني سعد» وجاء «أنا أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما قال له صلى الله عليه وسلم: ما رأيت أفصح منك يا رسول الله، فقال له: ما يمنعني وأنا من قريش، وأرضعت في بني سعد؟» فهذا كان يحملهم على دفع الرضعاء إلى المراضع الأعرابيات.
ومن ثم نقل عن عبد الملك بن مروان أنه كان يقول: أضر بنا حب الوليد، يعني ولده، لأنه لمحبته له أبقاه مع أمه في المصر ولم يسترضعه في البادية مع الأعراب، فصار لحانا لا عربية له. وأخوه سليمان استرضع في البادية مع الأعراب فصار عربيا غير لحان.
قالت حليمة: فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها يتيم، وذلك أنا إنما نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم ما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة معي إلا أخذت رضيعا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق: أي عزمنا عليه، قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك الرضيع فلآخذنه، قال: لا عليك: أي لا بأس عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، فذهبت إليه فأخذته.
أقول: وهذا السياق قد يخالف قول بعضهم: إن عبد المطلب خرج يلتمس له المراضع فجاءت له حليمة ابنة أبي ذؤيب، إلا أن يقال: جاز أن يكون التماسه للمراضع غير حليمة كان عند قدومهن، وأبين أن يقبلن، ثم طلب من حليمة ذلك بعد أن لم يجد رضيعا. ويدل لذلك قول صاحب «شفاء الصدور» إن حليمة قالت:
استقبلني عبد المطلب فقال: من أنت؟ فقلت: أنا امرأة من بني سعد قال: ما اسمك؟ قلت حليمة، فتبسم عبد المطلب وقال: بخ بخ، سعد وحلم، خصلتان فيهما خير الدهر وعز الأبد، يا حليمة إن عندي غلاما يتيما، وقد عرضته على نساء بني سعد فأبين أن يقبلن وقلن: ما عند اليتيم من الخير، إنما نلتمس الكرامة من