بمكة كما يسمر الفتيان قال نعم» وأصل السمر: الحديث ليلا «فخرجت، فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ فقالوا:
فلان قد تزوج بفلانة» لرجل من قريش تزوج من امرأة من قريش «فلهوت بذلك الصوت حتى غلبتني عيناي فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس» أي وفي لفظ «فجلست أنظر- أي أسمع- وضرب الله على أذني، فو الله ما أيقظني إلا حر الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك» .
أقول: المناسب لقوله عصمين الله ما في الرواية الثانية لا ما ذكر في الرواية الأولى، إلا أن يحمل قوله في الرواية الأولى فلهوت على أردت أن ألهو، والله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم:«والله ما هممت بغيرهما بسوء مما تعمله أهل الجاهلية» : أي ما هممت بسوء مما يعمله أهل الجاهلية غيرهما، وفي لفظ «فو الله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك» أي مما يعمله أهل الجاهلية «ولا هممت به حتى أكرمني الله تعالى بنبوّته» .
ومن ذلك ما جاء عن أم أيمن رضي الله عنها أنها قالت، كان بوانة بضم الموحدة وبفتح الواو مخففة بعدها ألف ونون، صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك- أي تذبح له- وتحلق عنده، وتعكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة، فكان أبو طالب يحضر مع قومه ويكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد معه فيأبى ذلك، حتى قالت رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، ويقلن ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا، فلم يزالوا به حتى ذهب، فغاب عنهم ما شاء الله، ثم رجع مرعوبا فزعا، فقلن: ما دهاك؟ قال إني أخشى أن يكون بي لمم: أي لمة وهي المس من الشيطان، فقلن: ما كان الله عز وجل ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك فما الذي رأيت؟ قال: إني كلما دنوت من صنم منها: أي من تلك الأصنام التي عند ذلك الصنم الكبير الذي هو بوانة تمثل لي رجل أبيض طويل، أي وذلك من الملائكة يصيح بي: وراءك يا محمد لا تمسه، قالت: فما عاد إلى عيد لهم حتى تنبأ صلى الله عليه وسلم.
أقول: ظاهر هذا السياق أن اللمم يكون من الشيطان، وحينئذ يكون بمعنى اللمة: وهي المس من الشيطان كما قدمناه، فقد أطلق اللمم على اللمة، وإلا فاللمم نوع من الجنون كما تقدم في قصة الرضاع: قد أصابه لمم أو طائف من الجن، إذ هو يدل على أن اللمم يكون من غير الشيطان كمرض. وعبارة الصحاح: اللمم طرف من الجنون، وأصاب فلانا من الجن لمة: وهي المس أي فقد غاير بينهما، والله أعلم.