الخلق فهي تفرغ القلب عن أشغال الدنيا لدوام ذكر الله تعالى، فيصفو وتشرق عليه أنوار المعرفة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده. وكان يخلو بغار حراء بالمد والقصر، وهذا الجبل هو الذي نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله إلي يا رسول الله لما قال له ثبير وهو على ظهره: اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب، فكان صلى الله عليه وسلم يتحنث: أي يتعبد به أي بغار حراء الليالي ذوات العدد، ويروى أولات العدد: أي مع أيامها، وإنما غلب الليالي لأنها أنسب بالخلوة. قال بعضهم: وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد، فتارة كان ثلاث ليال، وتارة سبع ليال، وتارة شهر رمضان أو غيره.
وفي كلام بعضهم ما قد يدل على أنه لم يختل صلى الله عليه وسلم أقل من شهر، وحينئذ يكون قوله في الحديث الليالي ذوات العدد محمول على القدر الذي كان يتزود له فإذا فرغ زاده رجع إلى مكة وتزود إلى غيرها إلى أن يتم الشهر، وكذا قول بعضهم؟
فتارة كان ثلاث ليال، وتارة سبع ليال، وتارة شهرا. ولم يصح أنه صلى الله عليه وسلم اختلى أكثر من شهر. قال السراج البلقيني في شرح البخاري: لم يجئ في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده عليه الصلاة والسلام، هذا كلامه وسيأتي بيان ذلك قريبا.
ثم إذا مكث صلى الله عليه وسلم تلك الليالي: أي وقد فرغ زاده يرجع إلى خديجة رضي الله تعالى عنها فيتزود لمثلها: أي قيل وكانت زوادته صلى الله عليه وسلم الكعك والزيت. وفيه أن الكعك والزيت يبقى المدة الطويلة، فيمكث جميع الشهر الذي يختلى فيه ثم رأيت عن الحافظ ابن حجر مدة الخلوة كانت شهرا، فكان يتزود لبعض ليالي الشهر فإذا نفد ذلك الزاد رجع إلى أهله يتزود قدر ذلك، ولم يكونوا في سعة بالغة من العيش، وكان غالب أدمهم اللبن واللحم، وذلك لا يدخر منه لغاية شهر لئلا يسرع الفساد إليه، ولا سيما وقد وصف بأنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم من يرد عليه هذا كلامه.
وهو يشير فيه إلى ثلاثة أجوبة:
الأول: أنه لم يكن في سعة بحيث يدخر ما يكفيه شهرا من الكعك والزيت.
الثاني: أن غالب أدمهم كان اللحم واللبن وهو لا يدخر شهرا.
الثالث: أنه على فرض أن يدخر ما يكفيه شهرا أي من الكعك والزيت إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يطعم فربما نفد ما ادخره.
وإنما اختار الزيت للأدم لأن دسومته لا ينفر منها الطبع، بخلاف اللبن واللحم، ومن ثم جاء «ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة» وقوله: «ائتدموا من هذه الشجرة المباركة» أي من عصارة ثمرة هذه الشجرة المباركة التي هي الزيتونة وهو الزيت. وقيل لها مباركة لأنها لا تكاد تنبت إلا في شريف