وقد اشتملت هذه الآيات على براعة الاستهلال: وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه، ويشير إلى ما سبق الكلام لأجله فإنها اشتملت على الأمر بالقراءة والبداءة فيها ببسم الله، إلى غير ذلك مما ذكره في الإتقان. قال فيه: من ثم قيل إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن، لأن عنوان الكتاب ما يجمع مقاصده بعبارة موجزة في أوله، وكرر جبريل الغط ثلاثا للمبالغة. وأخذ منه بعض التابعين وهو القاضي شريح أن المعلم لا يضرب الصبي على تعليم القرآن أكثر من ثلاث ضربات.
وأورد الحافظ السيوطي عن الكامل لابن عدي بسند ضعيف عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضرب المؤدب الصبي فوق ثلاث ضربات» .
وذكر السهيلي أن في ذلك: أي الغط ثلاثا إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم يحصل له شدائد ثلاث ثم يحصل له الفرج بعد ذلك فكانت الأولى إدخال قريش له صلى الله عليه وسلم الشعب والتضييق عليه. والثانية اتفاقهم على الاجتماع على قتله صلى الله عليه وسلم. والثالثة خروجه من أحب البلاد إليه، وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل وميكائيل: أي قبل قول جبريل له اقرأ فشق جبريل بطنه وقلبه، إلى آخر ما تقدم في الكلام على أمر الرضاع ثم قال له جبريل:
اقرأ الحديث، فعلم أن اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ نزلت من غير بسملة، وقد صرح بذلك الإمام البخاري، وما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «بأن أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد استعذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ قال الحافظ ابن كثير. هذا الأثر غريب، في إسناده ضعف وانقطاع، أي فلا يدل للقول بأن أول ما نزل بسم الله الرحمن الرحيم، حكاه ابن النقيب في مقدمة تفسيره، وبه يرد على الجلال السيوطي حيث قال: وعندي فيه أن هذا لا يعد قولا برأسه، فإن من ضرورة نزول السورة أي سورة اقرأ نزول البسملة معها، فهي أول آية نزلت على الإطلاق، هذا كلامه والله أعلم.
قال الحافظ ابن حجر: هذا الذي وقع له صلى الله عليه وسلم في ابتداء الوحي من خصائصه، إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء عليه الصلاة والسلام أنه جرى له عند ابتداء الوحي مثل ذلك. «ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الآية رجع بها ترجف بوادره» والبادرة اللحمة التي بين المنكب والعنق، تتحرك عند الفزع ويقال لها الفريصة والفرائص: أي وفي رواية «فؤاده» أي قلبه، ولا مانع من اجتماع الأمرين، لأن تحرك البادرة ينشأ عن فزع القلب «حتى دخل صلى الله عليه وسلم على خديجة فقال: زملوني زملوني» أي غطوني بالثياب «فزملوه حتى ذهب عنه الروع» بفتح الراء: أي الفزع «ثم أخبرها الخبر وقال:
لقد خشيت على نفسي» وفي رواية «على عقلي» كما في «الأمتاع»«قالت له خديجة:
كلا أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا» أي لا يفضحك «إنك لتصل الرحم، وتصدق