وهو يقاتل في قلب المعمعة طعنة قاتلة، فسقط من جواده وأسلم الروح في الحال، بين يدي كاهنه، فانتثر شمل النافاريين، وركنوا إلى الفرار، وأغضى فرناندو عن مطاردتهم، وقصر أمر المطاردة على حلفائهم المسلمين، فمزقوا قتلا وأسراً.
وأمر فرناندو بأن يحمل جثمان أخيه بمنتهى التكريم، وأن يدفن في ناجرة في الكنيسة التي أنشأها هناك، وأعلن في الحال اختيار ولده الصبي سانشو مكانه ملكاً على نافار، وأعلن الملك الجديد من جانبه طاعته لعمه الظافر، الذي شاء أن يبقى له على تراث أبيه، ولم يقتطع فرناندو شيئاً من أراضي نافار سوى بعض النواحي الواقعة على ضفة الإيبرو اليمنى (١).
- ٢ -
في الوقت الذي كانت فيه الممالك الإسبانية النصرانية تضطرم على هذا النحو بنار الحرب الأهلية، ويسقط ملوكها الأصهار والإخوة صرعى خلافهم وأطماعهم، كانت اسبانيا المسلمة من جانبها قد استحالت إلى أشلاء ممزقة، وقامت بها أكثر من عشرين دولة من دول الطوائف. وبينما كانت الخلافة تحتضر في قرطبة وتتردد أنفاسها الأخيرة بين الشريدين من بني أمية، وبين المتوثبين من بني حمود، كان أمراء الطوائف ومعظمهم حديث عهد بالرياسة والسلطان، يضطرمون بأطماعهم الوضيعة، ويجعلون بمنازعاتهم وحروبهم الأهلية الصغيرة، من الأندلس مسرحاً لفتنة غامرة لا يخبو أوارها ولا يستقر قرارها، والواقع أن المصير الذي تردت فيه الأندلس الكبرى على يد الطوائف وحروبهم الانتحارية، كان أتعس بكثير مما انحدرت إليه اسبانيا النصرانية من حروب أهلية محدودة النطاق والمدى، ولم تلبث أن أسفرت عن تماسك المملكة النصرانية، ووحدتها ونهوضها. ولقد كان من رحمة القدر فقط. أن أتيح لهذه الدويلات الإسلامية الصغيرة أن تحتفظ بحياتها، وأن شغلت عدوتها الخالدة اسبانيا النصرانية عن مطاردتها والقضاء عليها، بخلافاتها وحروبها الداخلية في تلك الفترة، أعني في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي.
منذ بدإية هذا القرن، حدث في شبه الجزيرة انقلاب حاسم في ميزان
(١) راجع في تفاصيل هذه الحوادث: M.Lafuente: ibid; V.II.p. ٣٨٢-٣٨٣ وكذلك R.M.Pidal: La Espana del Cid; p. ١٢٢-١٢٣