القوى السياسية والعسكرية، فبعد أن كانت اسبانيا المسلمة، منذ أيام الناصر حتى نهاية عهد المنصور، تحتفظ بتفوقها العظيم على اسبانيا النصرانية، وتكاد تخضعها لصولتها، ويترامى ملوكها على أعتاب الخلافة القرطبية، ويؤدون لها الجزية في معظم الأحيان، إذا بها بعد انهيار الخلافة، وقيام دول الطوائف الهزيلة المتنابذة، تفقد كل منعة وكل مقدرة حقيقية على الدفاع، ويتسابق ملوكها إلى خطب ود الملوك النصارى، والالتجاء إليهم، واستعدائهم على محاربة بعضهم البعض. وقد كان الملوك النصارى، يبادرون إلى انتهاز هذه الفرص، حتى في فترات ضعفهم وتفرقهم، ويتخذونها وسيلة للتفوق العسكرى، والغنم المادي. وقد بدأت سياسة الاستعداء هذه للملوك النصارى منذ بداية الفتنة ذاتها، حيث نرى الأحزاب المتنافسة على اجتناء سلطان الخلافة، تستمد عون النصارى، على نحو ما فعل الفتى واضح ومحمد بن هشام المهدي في الاستنصار بأمير برشلونة، وسليمان بن الحكم والبربر، في استدعاء سانشو غرسية أمير قشتالة. على أن هذا التنافس في استعداء الملوك النصارى، والاستعانة بهم، يتسع نطاقه تباعاً، ويغدو على يد ملوك الطوائف، حسبما رأينا في أخبارهم، ضرورة سياسية وعسكرية يلجأون إليها بطريقة مستمرة منتظمة. وقد استغل الملوك النصارى هذه الظاهرة أعظم استغلال، حتى غدا ملوك الطوائف، في الواقع آلات مسخرة في آيديهم، ووصل هذا الإذلال إلى ذروته، حسبما رأينا، على يد ألفونسو السادس ملك قشتالة.
على أن ذلك لم يكن دون تمهيد من جانب القوة المادية، فقد استطاعت إسبانيا النصرانية، أن تمهد لتفوقها السياسي والعسكري في شبه الجزيرة، منذ أواسط القرن الحادي عشر، بسلسلة من الغزوات والفتوحات العظيمة، التي تبلورت على أثرها سياسة الاسترداد الإسبانية La Reconquista، وغدت ظاهرة قوية وعاملا حاسماً، في ميدان الصراع بين اسبانيا المسلمة وبين اسبانيا النصرانية.
وقد بدأت هذه السياسة على يد فرناندو الأول ملك قشتالة وليون، وهو الذي تعرفه الرواية الإسلامية بفرذلند، فإنه ما كاد ينتهي من الصراع الداخلي ْالذي نشب بينه وبين إخوته، حتى تأهب لغزو أراضي المسلمين. وفي سنة ١٠٥٧ م، عبر في قواته نهري دويرة وتورمس، ونفذ إلى ولاية لوزيتانيا