إمارة نصرانية أخرى، هي إمارة أوكونتية برشلونة. ونحن نعرف أن برشلونة كانت أول ثغر عظيم يفقده المسلمون في شمالي شبه الجزيرة، وقد افتتحها شارلمان (كارل الأكبر) في سنة ١٨٥ هـ (٨٠١ م) أيام الحكم بن هشام، وجعلها قاعدة الثغر القوطي أو الثغر الإسباني، الذي أنشأه فيما وراء البرنيه، حماية لحدود فرنسا الجنوبية. وكان ملوك الفرنج يعينون حكام هذا الثغر في البداية من الأشراف أو الكونتات الذين ينتمون إلى أصل قوطي أو فرنجي. ولما ضعفت مملكة الفرنج وتخلت عن حماية الثغر وإمداده، وشعر أولئك الكونتات بقوتهم، ونأيهم عن الحكومة المركزية، أعلنوا استقلالهم، وانقسم الثغر إلى عدة إمارات أوكونتيات صغيرة كان أهمها إمارة برشلونة. وكان يحكمها في أواخر القرن العاشر آل بوريل، وفي عهدهم غزاها المنصور بن أبي عامر، واقتحمها وخربها، وذلك في سنة ٣٧٥ هـ (٩٨٥ م)، ولكنه لم يحاول الاحتفاظ بها. ولما سقطت الدولة العامرية واضطرمت الفتنة في قرطبة، سعي واضح الصقلبي في الاستعانة بأمير برشلونة الكونت رامون بوريل، وزميله كونت أرقلة، فسار معه لمقاتلة البربر لقاء أموال جزيلة، واشترك إلى جانب المهدي محمد بن هشام في المعارك التي وقعت يومئذ (٤٠٠ هـ - ١٠١٠ م). ومنذ أوائل القرن الحادي عشر نرى برشلونة تحت حكم آل برنجير، وقد حكمها مؤسس هذه الأسرة الكونت رامون برنجير الكبير من سنة ١٠٣٥ إلى سنة ١٠٧٦ م، وفي عهده اتسعت رقعة الإمارة، وضمت إليها أرقلة وشرطانية (١)، ثم ضم إليها ولاية قرقشونة الفرنجية، في الناحية الأخرى من جبال البرنيه، وذلك بشرائها من ابنتى صاحبها الكونت روجر الثالث. وكان لضم هذا الجزء من أراضي لانجدوك إلى إمارة برشلونة نتيجة هامة، هي إعادة الصلة بين الثغر القوطي القديم، وجنوب فرنسا، والتمهيد بذلك لنزوح الفرسان الفرنج المغامرين، الذين تحدوهم روح صليبية، ويحدوهم البحث وراء طالعهم، والتحاق جموع كبيرة منهم بالجيوش النصرانية التي تقاتل المسلمين في شبه الجزيرة.
وكان من أهم أعمال الكونت برنجير الأول، هي إصلاحاته القضائية، فقد استدعى في سنة ١٠٦٨ م جمعية من الكبراء في برشلونة، وأصدر هذا البرلمان قانوناً جديداً سمي " بعرف برشلونة " Usages de Barcelona ليطبق إلى جانب القانون القوطي القديم.
(١) أرقلة هي بالإسبانية Urgel، وشرطانية هي: Cerdana