للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحكام والقادة، ومعظمهم من أقارب أمير المسلمين وأصهاره، تجافي بعنفها وخشونتها ما جبلت عليه الأمة الأندلسية المتحضرة المترفة، من الأساليب المهذبة الرقيقة. ومن ثم فإنه لا يدهشنا أنه لم يمض سوى خمسة عشر عاماً فقط، على وفاة عاهل المرابطين يوسف بن تاشفين، حتى اضطرمت الثورة في قرطبة حاضرة الأندلس يومئذ، ضد المرابطين في سنة ٥١٥ هـ (١١٢١ م)، في أوائل عهد علي بن يوسف، وذلك وفقاً لقول الثوار " ذباً عن الحُرَم والدماء والأموال " (١).

ولم تكن هذه الفورات وأمثالها، في البداية سوى محاولات للتنفس من حكم المرابطين المتزمت المرهق. ولم تقو الفكرة الوطنية الأندلسية وتتبلور إلا فيما بعد، في أواخر عهد المرابطين، حينما اضطرمت الأندلس كلها، من شرقها إلى غربها، بالثورة ضدهم، وقام أحمد بن قسيّ في غرب الأندلس، في ميرتلة وشلب وباجة سنة ٥٣٩ هـ (١١٤٤ م)، وقام في نفس العام أبو جعفر ابن حمدين في قرطبة، وأبو الحسن على ابن أضحى في غرناطة. وفي نفس الوقت انهار سلطان المرابطين تباعاً في شرقي الأندلس، وقام القاضي ابن عبد العزيز أولا في بلنسية، ومرسية.

ثم نهض ابن عياض فغلب عليهما بعد طائفة من الأحداث والانقلابات المتوالية، ودعا بالرياسة لسيف الدولة ابن هود. وتقلد ابن هود الرياسة الإسمية، وهو في تقلده إياها، يمثل الفكرة القومية الأندلسية، ولما قتل ابن هود في موقعة البسيط، التي نشبت بين قوات بلنسية وابن هود، وبين القشتاليين وذلك في سنة ٥٤٠ هـ (١١٤٦ م) دعا ابن عياض لنفسه، وغلب على شرقي الأندلس كله، إلى أن لقي مصرعه في معركة نشبت بينه وبين القشتاليين في سنة ٥٤٢ هـ (١١٤٧ م). وعندئذ خلفه في الرياسة نائبه وصهره محمد بن سعد بن مردنيش، وسرعان ما اشتد ساعده، وبسط سلطانه القوي على سائر القواعد الشرقية من بلنسية حتى قرطاجنة. وكان ابن مردنيش يمثل الفكرة القومية الأندلسية في أعمق صورها، وقد شهر علم النضال ضد الموحدين أعواماً طويلة، حتى تبددت قواه، ثم خبت فورته بوفاته، وذلك كله حسبما نفصل بعد في مواضعه. وكان سلطان المرابطين قد انهار نهائياً في شرقي الأندلس، قبل ثورة ابن مردنيش بعدة أعوام، وإن كان بفضل الجهود العنيفة التي بذلها قائد المرابطين القوي ابن غانية، قد لبث في بعض القواعد الوسطى والغربية لفترة قصيرة أخرى.


(١) الحلل الموشية ص ٦٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>