كانت هذه الفورات المتعاقبة التي اضطرمت ضد المرابطين في مختلف القواعد الأندلسية، في تلك الفترة العصيبة من أيامهم، تتسم بالرغم من اتخاذها في بعض نواحيها صورة الحرب الأهلية، بالطابع الوطني، وتمثل بوضوح فكرة تحرير الأندلس من النير المرابطي. ولم يكن أولئك الزعماء الخوارج، يحجمون في سبيل تحقيق غايتهم، أو في سبيل التطاحن فيما بينهم، عن الإستعانة بالنصارى، وهي وسيلة شائنة، خطرة في نفس الوقت، تتحطم لديها سائر الاعتبارات الوطنية والدينية. بيد أنه يجب أن نذكر أنها نفس الوسيلة اليائسة التي لجأ إليها أمراء الطوائف، حينما استشفوا نية عاهل المرابطين في القضاء عليهم، فلم يحجموا عن الالتجاء إلى ملك قشتالة، ألفونسو السادس، أخطر أعدائهم، والمنتزع لقواعدهم وأراضيهم، والتحالف معه على رد الجيوش المرابطية. وكان الملوك النصارى يسارعون بتلبية أمثال هذه الدعوات، ليس فقط انتهازاً لما تقدمه إليهم من فرص الضرب والتفريق بين الأمراء المسلمين، واستنزاف قواهم، وانتزاع ما يمكن انتزاعه منهم من الأموال والأراضي، ولكن كذلك شعوراً منهم بالخطر المشترك، الذي يهدد الوطن المشترك - شبه الجزيرة الإسبانية - من جراء تغلب القبائل البربرية المرابطية عليه، واستقرارها فيه، وقد تمثلت هذه الظاهرة فيما بعد أيام الموحدين، أصدق تمثيل، في ثورة محمد بن سعد بن مردنيش، وفي تحالفه المستمر الوثيق مع الملوك النصارى، ضد الموحدين.
* * *
ونستطيع أن نقول إنه منذ انهارت ثورة ابن مردنيش في شرقي الأندلس بوفاته سنة ٥٦٧ هـ (١٠٧٢ م)، واستولى الموحدون على مملكة مرسية، خلُصت الأندلس كلها لطاعة الموحدين، وغاضت النزعة القومية الأندلسية، واستسلمت الأندلس لحكم سادتها من وراء البحر، واستطاع الموحدون أن يوطدوا سلطانهم في الجزيرة مدى نصف قرن آخر، وسطع البلاط الموحدي في إشبيلية، التي جعل الموحدون منها حاضرة الأندلس، وخصوها بمنتهى الرعاية، وعملوا على تحصينها، وتجميلها بطائفة من الصروح الفخمة، وقامت منشآتهم العمرانية العظيمة بإشبيلية، وغيرها من قواعد الأندلس، من قصور ومساجد وحصون وقناطر وأسوار، تشيد بهمتهم وقوة سلطانهم، وفخامة دولتهم.
والتف حول البلاط الموحدي سواء بإشبيلية أو المغرب، أعلام الأندلس من كل