ضرب، من فقهاء وعلماء وكتاب وشعراء، وحشد الخلفاء الموحدون إلى جانبهم أقطاب البيان والتفكير الأندلسيين، واتخذوا منهم وزراء وكتاباً وأطباء، وخدم علماء وفلاسفة عظام، مثل ابن طُفيل، وابن زهر، وابن رشد، في بلاط الخليفة الموحدي.
وهكذا استقام الأمر بالأندلس في ظل الحكم الموحدي مدى نصف قرن
آخر، وشغل الموحدون داخل إمبراطوريتهم العظمية بالمغرب، بتوطيد سلطانهم،
وقمع نزعات العصيان المحلية، وشغلوا بالأخص بمكافحة بني غانية، والقضاء
على ثورتهم وحركاتهم المخربة بإفريقية، وهي ثورة اقتضت منهم أفدح الجهود،
وكادت في بعض الأحيان أن تقضى على سلطانهم في إفريقية. ثم كان عهد الخليفة الناصر ابن المنصور، وكانت حملته المشئومة إلى الأندلس، وكانت نكبة العقاب الساحقة (٦٠٩ هـ)، وما ترتب عليها من انهيار سلطان الموحدين في شبه الجزيرة؛ عندئذ تغيرت الأمور، وتجهمت الحوادث، ولم يقتصر الأمر عندئذ على استطالة الممالك النصرانية، وضغطها على مختلف نواحي الأندلس، وتحفزها لافتتاح قواعدها الكبرى، ولكن حدث في نفس الوقت أن أخذت بوادر الثورة تتحرك داخل الأندلس، تغذيها العوامل القومية القديمة، ضد حكم وهنت دعائمه.
وكان موطن هذه الثورة الجديدة، شرقي الأندلس، وكان على رأسها زعيمان ينتمي كلاهما إلى بيت من البيوت الثائرة القديمة، أولهما زيان بن مردنيش، والثاني أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود؛ وبينما انحصرت حركة زيان ببلنسية، إذا بدعوة ابن هود تجتاح مرسية وألمرية وغرناطة ومالقة، وكانت حركة ابن هود تمثل فكرة الأندلس القومية أصدق تمثيل، وترى إلى تحرير الأندلس من نير الموحدين، والنصارى معاً، ولكن موارده وقواته، لم تكن تسمح له بأن يضطلع بمثل تلك المهمة الفادحة. ومن جهة أخرى، فقد نهض النصارى لانتهاز الفرصة السانحة، وانتزاع قواعد الأندلس الكبرى، خلال تلك الغمار المضطرمة، فقام ألفونسو التاسع ملك ليون بانتزاع قواعدها الغربية، ماردة وبطليوس وغيرها (٦٢٧ هـ) ثم قام فرناندو الثالث بانتزاع قرطبة عاصمة الخلافة القديمة (شوال سنة ٦٣٣ هـ - يونيه ١٢٣٦ م) - وذلك في الوقت الذي تخلى فيه ابن هود عن إنجادها، وشغل بالعمل لتوطيد سلطانه في جنوبي الأندلس. وكان لسقوط قرطبة أعمق وقع في تلك الأندلس المفككة المنهوكة القوى، ولكنه كان أمراً محتوماً لا سبيل إلى اتقائه.