للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خاضها، والفتوح العظيمة التي حققها، والتي جعلت من الدولة المرابطية الكبرى، في ظله، أعظم دولة قامت في المغرب الإسلامي، من حيث المدى الإقليمي، ومن حيث القوى والموارد الزاخرة، إذ كانت تمتد من تونس شرقاً إلى المحيط الأطلنطي غرباً، ومن ضفاف نهر الإيبرو والتاجُه في شبه الجزيرة الإسبانية شمالا، إلى قلب الصحراء الإفريقية الكبرى جنوباً. فقد لبث البطل المرابطي، عاهل هذه الدولة الشامخة، على حالته الأولى، مذ كان زعيماً محلياً من زعماء الصحراء، بدوياً متقشفاً يرتدي الصوف الخشن، ولا يلبس غيره قط، ويقتصر في طعامه على الشعير ولحوم الإبل وألبانها، لا يأكل سواها قط (١)، ولم يتأثر طول حياته، بأية نزعة من ترف القصور، ولا عيشها الناعم ولا مغرياتها المفسدة، بالرغم من هذا الملك الباذخ، وهذه الدنيا العريضة التي كانت تحت أقدامه. ويكفي أن نتأمل مدى لحظة عابرة، ما كانت عليه قصور الطوائف الأندلسية من الفخامة والبذخ الطائل، وما كان يغرق فيه أمراؤها الأصاغر من العيش الرخو الوثير المترف، تتألق ثيابهم الفخمة بالذهب والجوهر، وتحيط بهم أكواب الشراب وأسراب الغلمان والجواري والفتيات - يكفي أن نتأمل ذلك، لنرتفع بحياة البطل المرابطي، إلى ذرى الإكبار والإجلال والإعجاب.

وقد كانت هذه البساطة المؤثرة التي طبعت حياة يوسف بن تاشفين، تقترن في نفس الوقت بطائفة من الصفات المعنوية النبيلة، التي تجعل من صاحبها عماداً حقيقياً للملك، وتتوطد بها أسس الدولة العظيمة. فقد كان يوسف يتمتع بكثير من الذكاء والفطنة، والعزم والشجاعة والحزم، والكرم والجود، وكان فضلا عن ذلك كثير التقى والورع. وإلى ذلك يشير ابن الصيرفي مؤرخ الدولة المرابطية بقوله: " كان رحمه الله خائفاً لربه، كتوماً لسره، كثير الدعاء والاستخارة، مقبلا على الصلاة، مديماً للاستغفار " (٢). ويلحق بذلك شغف يوسف بالجهاد، فقد كان بطلا مجاهداً حقاً، وقد أنفق من عمره أعواماً طويلة في الجهاد في سبيل الله، مذ ندبه ابن عمه الأمير أبو بكر اللمتوني لقيادة المرابطين. وقد تجلت هذه النزعة للجهاد فيما بعد بصورة رائعة، في استجابته لصريخ الطوائف، وفي موقعة الزلاّقة العظيمة، وفيما خاضته الجيوش المرابطية، في مختلف


(١) روض القرطاس ص ٨٧.
(٢) ابن الخطيب عن ابن الصيرفي في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة ٣٩٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>