للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكنها مع ذلك قد كشفت عن حقيقة هامة، وهي أن نظم الدفاع عن الأندلس، لم تكن يومئذ وفق ما يجب من المتانة والإحكام، وأن خطط القيادة المرابطية، منذ نكبة سرقسطة لم تكن كفيلة، بردع عدوان الممالك النصرانية. ولم يكن أدل على هذه الحقيقة من أن ملكاً من ملوك اسبانيا النصرانية، استطاع أن يخترق الأندلس من الثغر الأعلى، حتى شاطى البحر المتوسط، دون أن تستطيع قوة إسلامية، مرابطية أو غيرها، أن تقف في سبيله.

وثمة حقيقة أخرى كانت جديرة بالاعتبار، وهي أن النصارى المعاهدين الذين يعيشون في ظل الحكومة الإسلامية، ويتمتعون برعايتها، لم يكونوا يشعرون نحوها بذرة من الولاء، بل كانوا يمثلون خطراً داخلياً على الأندلس، ولا يدخرون وسعاً في الكيد لها، وممالأة أعدائها، وتحريضهم على التنكيل بها، وقد سبق أن أشرنا من قبل في كتابنا " دول الطوائف " إلى هذه الحقيقة، وبينا كيف كانت الأحقاد والشكوك، تحيط بمجتمع المعاهدين، وبالأخص منذ سقوط طليطلة، وكيف أن بعيدي النظر من الوزراء والفقهاء، كانوا ينصحون بالحذر منهم، ويدعون إلى ردعهم والتضييق عليهم، كما فعل الوزير الكاتب عبد المجيد بن عبدون في رسالته عن الحسبة (١). ولقد كانت دعوة المعاهدين لألفونسو المحارب، ومعاونتهم له في غزو الأندلس، على هذه الصورة البعيدة المدى، تمثل بالنسبة لهم ذروة الجحود والاجتراء والخيانة، ومن ثم فقد كان لابد من أن يحدث موقفهم أسوأ الأثر في الأمة الأندلسية والحكومة الإسلامية، وكان لابد أن تتخذ في حقهم إجراءات رادعة، تكفل قمع دسائسهم وعدوانهم بصورة حاسمة. وهذا ما حدث بالفعل عقب انتهاء غزوة ألفونسو المحارب، فإن ما حدث على أثرها من بوادر السخط على المعاهدين، والتوجس من مكائدهم، حمل كبير الجماعة في قرطبة القاضي أبا الوليد بن رشد، على أن يعبر البحر إلى المغرب، ثم قصد إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بمراكش، وشرح له أحوال الأندلس، وما منيت به على يد المعاهدين، وما جنوه عليها من استدعاء النصارى، وما يترتب على ذلك من " نقض العهد والخروج على الذمة "، وأفتى بتغريبهم ووجوب إجلائهم عن أوطانهم، وهو أخف ما يؤخذ به في عقابهم. فأخذ أمير المسلمين بهذه الفتوى، وصدر عهده إلى جميع بلاد الأندلس، بتغريب المعاهدين إلى العُدوة


(١) كتاب " دول الطوائف " ص ٣٩٩ و ٤٠٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>